ترصيع بالقصائد
على السيرة الذاتية

 


عودة الى البداية

 

العائلة 

  الحب

  أبي

  خمس رسائل إلى أمي.

  أم المعتز

  أمي

  شقيقتي الكُبرى.

  إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني.

  كان ولدي .. فصار ولدكم

  عن موت البجع والأطفال

  هل احترق بنار الشعر ؟

  عيد ميلاد جرح

  قصيدة بلقيس

  بلقيس.. زعيمة للمعارضة!!

  25 وردة في شعر بلقيس

   

   

 

العائلة

 

الحب

أنا من أسرة تمتهن العشق.

والحب يولد مع أطفال الأسرة، كما يولد السكر في التفاحة.

 في الحادية عشرة من عمرنا نصبح عاشقين، وفي الثانية عشرة نسأم… وفي الثالثة عشرة نعشق من جديد. وفي الخامسة عشرة من العمر يصبح الطفل في أسرتنا شيخا.. وصاحب طريقة في العشق..

جدي كان هكذا.. وأبي كان هكذا.. واخوتي كلهم يسقطون في أول عينين كبيرتين يرونهما… يسقطون بسهولة… ويخرجون من الماء بسهولة…

كل أفراد الأسرة يحبون حتى الذبح… وفي تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق…

الشهيدة هي أختي الكبرى وصال. قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير… لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها…

صورة أختي وهي تموت من أجل الحب… محفورة في لحمي. لا أزال أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت…

كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية… وأروع من كليوباترا المصرية…

حين مشيت في جنازة أختي… وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي…

وحين زرعوا أختي في التراب… وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر… وإنما وجدنا في مكانه وردة…

هل كان موت أختي في سبيل الحب أحد العوامل النفيسة التي جعلتني أتوفر لشعر الحب بكل طاقاتي وأهبه أجمل كلماتي ؟

هل كانت كتاباتي عن الحب، تعويضا لما حرمت منه أختي، وانتقاما لها من مجتمع يرفض الحب، ويطارده بالفؤوس والبنادق ؟

إنني لا أؤكد هذا العامل النفسي، ولا أنفيه. ولكني متأكد أن مصرع أختي العاشقة، كسر شيئا في داخلي… وترك على سطح بحيرة طفولتي أكثر من دائرة… وأكثر من إشارة استفهام.

قلت أنني أنتمي لأسرة على استعداد دائم للحب. أسرة لديها ( حساسية ) مفرطة للوقوع في الحب.

وإذا كانت حساسيات بعض الناس، منشؤها الألوان، أو الروائح، أو الغبار، أو تغير الفصول، فحساسية العائلة منشؤها القلب…

كلنا نعاني من هذه الحساسية المفرطة أمام أشياء الجمال…

كان أبي إذا مر به قوام امرأة فارعة، ينتفض كالعصفور، وينكسر كلوح من الزجاج…

كانت قراءة رسالة، أو بكاء طفل، أو ضحكة امرأة، تدمره تدميرا كاملا…

كان جبارا أمام الأحداث الجسام، ولكنه أمام وجه حسن التكوين، يتحول إلى كوم رماد…

عيناه الزرقاوان كانتا صافيتين كمياه بحيرة سويسرية، وقامته مستقيمة كرمح محارب روماني، وقلبه كان إناء من الكريستال يتسع للدنيا كلها…

كانت ثروته التي يفاخر بها، حب الناس. لم يكن يريد أكثر. ويوم مات خرجت دمشق كلها تحمله على ذراعيها… وترد له بعض ما أعطاها من حب…

أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب. كانت تعتبرني ولدها المفضل، وتخصني دون سائر اخوتي بالطيبات، وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوى ولا تذمر…

ولقد كبرت، وظللت في عينيها دائما طفلها الضعيف القاصر. ظلت ترضعني حتى سن السابعة، وتطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة،

وسافرت بعد ذلك إلى جميع قارات الدنيا، وظلت مشغولة البال على طعامي وشرابي ونظافة سريري. وتتسائل كلما جلست الأسرة على مائدة الطعام في دمشق : " ترى هل يجد ( الولد) في بلاد الغربة من يطعمه ؟… " والولد هو أنا بالطبع…

 ويا طالما طارت طرود الأطعمة الدمشقية، إلى السفارات التي كنت أعمل بها… لأن أمي لم تكن تصدق أن هناك شيئا يؤكل خارج مدينة دمشق.

 أما على الصعيد الفكري فلم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء. فلقد كانت مشغولة في عبادتها، وصومها وسجادة صلاتها. تسعى إلى المقابر في المواسم، وتقدم النذور للأولياء، وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفا من الشياطين، وتعلق أحجار الفيروز الأزرق في رقبة كل واحد منا، خوفا عليه من عيون الحاسدين.

 بين تفكير أبي الثائر، وتفكير أمي السلفي، نشأت أنا على أرض من النار والماء.

 كانت أمي ماء.. وأبي نارا.. وكنت بطبيعة تركيبي أفضل نار أبي على ماء أمي..

 لم يكن أبي متدينا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. كان يصوم خوفا من أمي، ويصلي الجمعة في مسجد الحي –في بعض المناسبات- خوفا على سمعته الشعبية.

كان الدين عنده سلوكا وتعاملا وخلقا. وشهد الله أنه كان على خلق عظيم.

 دائما كان في ماله حق للسائل والمحروم. ودائما كان في قلبه مكان للمعذبين في الأرض.

 والرغيف في منزلنا كان دائما نصفين.. نصفه الأول لغيرنا.. والنصف الثاني لنا..

 لم يكن أبي يفصل الدين عن إطاره الجمالي. لذلك كان يقضي الساعات منصتا بخشوع واستغراق إلى صوت المقرئ العظيم الشيخ محمد رفعت. كان يعتبر صوته نافذة مفتوحة على نور الله.. وواحة من واحات الإيمان..

 ولست أنسى أبدا ذلك اليوم الذي هدد فيه ببارودة صيد مؤذنا قبيح الصوت، جاؤوا  به إلى المسجد اللصيق ببيتنا، لأن صوته –برأي أبي- كان مؤامرة على المسلمين والإسلام. واختفى المؤذن نهائيا.. ولم يعد يجرؤ على الصعود إلى المئذنة..

 كان تفكير أبي الثوري يعجبني.. وكنت أعتبره نموذجا رائعا للرجل الذي يرفض الأشياء المسلم بها، ويفكر بأسلوبه الخاص.

بالإضافة إلى شبهي الكبير له بالملامح الخارجية، فقد كان شبهي له بالملامح النفسية أكبر.

وإذا كان كل طفل يبحث خلال مرحلة طفولته عن فارس، ونموذج، وبطل.. فقد كان أبي فارسي وبطلي.. ومنه تعلمت سرقة النار..

اعلى

 

أبي

أمات أبوك؟
ضلال أنا لا يموت أبي
ففي البيت منه
روائح رب.. وذكرى نبي

هنا ركنه.. تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصن صبي

جريدته، تبغه، متكاه
كأن أبي –بعد- لم يذهب..

وصحن الرماد.. وفنجانه
على حاله.. بعد لم يشرب

ونظارتاه.. أيسلو الزجاج
عيونا أشف من المغرب؟

بقاياه في الحجرات الفساح
بقايا النسور على الملعب

أجول الزوايا عليه فحيث
أمر.. أمر على معشب

أشد يديه.. أميل عليه..
أصلي على صدره المتعب

أبي.. لم يزل بيننا، والحديث
حديث الكؤوس على المشرب

يسامرنا. فالدوالي الحبالى
توالد من ثغره الطيب..

أبي خبرا كان من جنة
ومعنى من الأرحب الأرحب..

وعينا أبي.. ملجأ للنجوم
فهل يذكر الشرق عيني أبي؟

بذاكرة الصيف من والدي
كروم وذاكرة الكوكب..

أبي يا أبي.. إن تاريخ طيب
ورائك يمشي، فلا تعتب..

على اسمك نمضي، فمن طيب
شهي المجاني، إلى أطيب

حملتك في صحو عيني.. حتى
تهيأ للناس أني أبي..

أشيلك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبت ولا زلت بي؟

إذا فلة الدار أعطت لدين
ففي البيت ألف فم مذهب

 فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي..

اعلى

 

 

خمس رسائل إلى أمي

 

صباحُ الخيرِ يا حلوه..
صباحُ الخيرِ يا قدّيستي الحلوة

مضى عامانِ يا أمّي
على الولدِ الذي أبحر
برحلتهِ الخرافيّه
وخبّأَ في حقائبهِ
صباحَ بلادهِ الأخضر
وأنجمَها، وأنهُرها، وكلَّ شقيقها الأحمر

وخبّأ في ملابسهِ
طرابيناً منَ النعناعِ والزعتر
وليلكةً دمشقية..

أنا وحدي..
دخانُ سجائري يضجر
ومنّي مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ..
تفتّشُ –بعدُ- عن بيدر

عرفتُ نساءَ أوروبا..
عرفتُ عواطفَ الإسمنتِ والخشبِ
عرفتُ حضارةَ التعبِ..

وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشّطُ شعريَ الأشقر

وتحملُ في حقيبتها..
إليَّ عرائسَ السكّر

وتكسوني إذا أعرى
وتنشُلني إذا أعثَر

أيا أمي..
أيا أمي..

أنا الولدُ الذي أبحر
ولا زالت بخاطرهِ
تعيشُ عروسةُ السكّر

فكيفَ.. فكيفَ يا أمي
غدوتُ أباً..
ولم أكبر؟

 صباحُ الخيرِ من مدريدَ
ما أخبارها الفلّة؟
بها أوصيكِ يا أمّاهُ..
تلكَ الطفلةُ الطفله
فقد كانت أحبَّ حبيبةٍ لأبي..
يدلّلها كطفلتهِ
ويدعوها إلى فنجانِ قهوتهِ
ويسقيها..
ويطعمها..
ويغمرها برحمتهِ..

وماتَ أبي
ولا زالت تعيشُ بحلمِ عودتهِ
وتبحثُ عنهُ في أرجاءِ غرفتهِ
وتسألُ عن عباءتهِ..
وتسألُ عن جريدتهِ..
وتسألُ –حينَ يأتي الصيفُ-
عن فيروزِ عينيه..
لتنثرَ فوقَ كفّيهِ..
دنانيراً منَ الذهبِ..

سلاماتٌ..
سلاماتٌ..
إلى بيتٍ سقانا الحبَّ والرحمة
إلى أزهاركِ البيضاءِ.. فرحةِ "ساحةِ النجمة"
إلى تختي..
إلى كتبي..
إلى أطفالِ حارتنا..
وحيطانٍ ملأناها..
بفوضى من كتابتنا..
إلى قططٍ كسولاتٍ
تنامُ على مشارقنا
وليلكةٍ معرشةٍ
على شبّاكِ جارتنا

مضى عامانِ.. يا أمي
ووجهُ دمشقَ،
عصفورٌ يخربشُ في جوانحنا
يعضُّ على ستائرنا..
وينقرنا..
برفقٍ من أصابعنا..

 مضى عامانِ يا أمي
وليلُ دمشقَ
فلُّ دمشقَ
دورُ دمشقَ
تسكنُ في خواطرنا
مآذنها.. تضيءُ على مراكبنا
كأنَّ مآذنَ الأمويِّ..
قد زُرعت بداخلنا..
كأنَّ مشاتلَ التفاحِ..
تعبقُ في ضمائرنا
كأنَّ الضوءَ، والأحجارَ
جاءت كلّها معنا..

 أتى أيلولُ يا أماهُ..
وجاء الحزنُ يحملُ لي هداياهُ
ويتركُ عندَ نافذتي
مدامعهُ وشكواهُ

أتى أيلولُ.. أينَ دمشقُ؟
أينَ أبي وعيناهُ
وأينَ حريرُ نظرتهِ؟
وأينَ عبيرُ قهوتهِ؟
سقى الرحمنُ مثواهُ..

وأينَ رحابُ منزلنا الكبيرِ..
وأين نُعماه؟
وأينَ مدارجُ الشمشيرِ..
تضحكُ في زواياهُ
وأينَ طفولتي فيهِ؟
أجرجرُ ذيلَ قطّتهِ
وآكلُ من عريشتهِ
وأقطفُ من بنفشاهُ

 دمشقُ، دمشقُ..
يا شعراً
على حدقاتِ أعيننا كتبناهُ
ويا طفلاً جميلاً..
من ضفائرنا صلبناهُ
جثونا عند ركبتهِ..
وذبنا في محبّتهِ
إلى أن في محبتنا قتلناهُ..

 

اعلى

 

أم المعتز

 

عندما كانت بيروت تموت بين ذراعي
كسمكة اخترقها رمح
جاءني هاتف من دمشق يقول:

" أمك ماتت "

لم أستوعب الكلمات في البداية
لم أستوعب كيف يمكن أن يموت السمك كله في وقت واحد..
كانت هناك مدينة حبيبة تموت.. إسمها بيروت
وكانت هناك أم مدهشة تموت.. أسمها فائزة..
وكان قدري أن أخرج من موت..
لأدخل في موت آخر..
كان قدري أن أسافر بين موتين..

 كل مدينة عربية هي أمي..
دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم، الدار البيضاء
بنغازي، تونس، عمان، الرياض، الكويت، الجزائر، أبو ظبي وأخواتها..
هذه هي شجرة عائلتي..
كل هذه المدائن أنزلتني من رحمها
وأرضعتني من ثدييها..
وملأت جيوبي عنبا، وتسنا، وبرقوقا..
كلها هزت لي نخلها.. فأكلت..
وفتحت سماواتها لي..
كراسة زرقاء.. فكتبت..

 

لذلك لا أدخل مدينة عربية إلا وتناديني: " يا ولدي "
لا أطرق باب مدينة عربية..
إلا وأجد سرير طفولتي بانتظاري..
لا تنزف مدينة عربية إلا وأنزف معها..
فهل كان مصادفة أن تموت بيروت..
وتموت أمي في وقت واحد؟

 يعرفونها في دمشق بإسم ( أم المعتز )
وبالرغم من أن أسمها غير مذكور في الدليل السياحي
فهي جزء من الفولكلور الشامي.
وأهميتها التاريخية لا تقل عن أهمية ( قصر العظم )
و( قبر صلاح الدين ) و( مئذنة العروس ) ومزار ( محي الدين بن عربي )

وعندما تصل إلى دمشق..
فلا ضرورة أن تسأل شرطي السير عن بيتها..
لأن كل الياسمين الدمشقي يهرهر فوق شرفتها،
وكل الفل البلدي يتربى في الدلال بين يديها..
وكل القطط ذات الأصل التركي..
تأكل.. وتشرب.. وتدعو ضيوفها..
وتعقد اجتماعاتها في بيت أمي..

 نسيت أن أقول لكم، إن بيت أمي كان معقلا للحركة الوطنية في الشام عام 1935. وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير. ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي..

وبعد كل اجتماع شعبي، كانت أمي تحصي عدد ضحاياها من أصص الزرع التي تحطمت.. والشتول النادرة التي انقصفت.. وأعواد الزنبق التي انكسرت..

وعندما كانت تذهب إلى أبي شاكية له خسارتها الفادحة، كان يقول لها، رحمه الله، وهو يبتسم:

  • " سجلي أزهارك في قائمة شهداء الوطن.. وعوضك على الله "

وتختجل أمي من سخرية أبي المبطنة، ولكنها في نفس الوقت، تشعر بهزة عنفوان، لأن بيتها صار بيت الوطنية.. ولأن أزهارها.. ماتت من أجل الحرية..

أمي.. لا تتعاطى العلاقات العامة، وليس لها صورة واحدة في أرشيف الصحافة.

لاتذهب إلى الكوكتيلات وهي تلف ابتسامتها بورقة سولوفان..

لا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات..

لا تشتري ملابسها من لندن وباريس، وترسل تعميما بذلك إلى من يهمه الأمر..

لا توزع صورها كطوابع البريد على محررات الصفحات الاجتماعية..

ولم يسبق أن استقبلت مندوبة أي مجلة نسائية، وحدثتها عن حبها الأول.. وموعدها الأول.. ورجلها الأول..

فأمي ( دقة قديمة ).. ولا تفهم كيف يكون للمرأة حب أول.. وثان.. وثالث.. وخامس عشر..

أمي تؤمن برب واحد.. وحبيب واحد.. وحب واحد..

قهوة أمي مشهورة..
فهي تطحنها بمطحنتها النحاسية فنجانا.. فنجانا..
وتغليها على نار الفحم.. ونار الصبر..
وتعطرها بحب الهال..
وترش على وجه كل فنجان قطرتين من ماء الزهر..
لذلك تتحول شرفة منزلنا في الصيف إلى محطة تستريح فيها العصافير..
وتشرب قهوتها الصباحية عندنا.. قبل أن تذهب إلى الشغل..

وزارة زراعة كانت هذه المرأة..
ومن كثرة الأزهار، والألوان، والروائح التي أحاطت بطفولتي كنت أتصور أن أمي.. هي موظفة في قسم العطور بالجنة..

بموت أمي..
يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي..
أخر قميص حنان..
آخر مظلة مطر..
وفي الشتاء القادم..
ستجدوني أتجول في الشوارع عاريا..

 كل النساء اللواتي عرفتهن..
أحببنني وهن صاحيات..
وحدها أمي..
أحبتني وهي سكرى..
فالحب الحقيقي هو أن تسكر.. ولا تعرف لماذا تسكر..

 أمي متفشية في لغتي..
كلما نسيت ورقة من أوراقي في صحن الدار..
رشتها أمي بالماء مع بقية أحواض الزرع..
فتحولت الألف إلى ( امرأة )..
والباء إلى ( بنفسجة )..
والدال إلى ( دالية )..
والراء إلى ( رمانة )..
والسين إلى ( سوسنة ) أو ( سمكة ) أو ( سنونوة )..
ولهذا يقولون عن قصائدي إنها ( مكيفة الهواء )..
ويشترونها من عند بائع الأزهار..
لا من المكتبة..

 كلما سألوها عن شعري، كانت تجيب:

" ملائكة الأرض والسماء.. ترضى عليه".

طبعا.. أمي ليست ناقدة شعر موضوعية..
ولكنها عاشقة. ولا موضوعية في العشق.

فيا أمي يا حبيبتي.. يا فائزة..
قولي للملائكة الذين كلفتهم بحراستي خمسين عاما، أن لا يتركوني..
لأني أخاف أن أنام وحدي..

 

اعلى

أمي

رحمة الله على أمي ..
فقد كانـت تحب الشام، والماء،
وزهر الياسمين .

ثم .. لما رحلت
بكت الشام عليها
واستـقالت بعدها
أنهر الشام جميعا
وشتول الياسمين ..

 

اعلى

شقيقتي الكُبرى

 

يروِّعُني ..
شحوبُ شقيقتي الكُبرى

هي الأخرى
تُعاني ما أعانيهِ
تعيشُ الساعةَ الصِفْرا ..

 تعاني عقدةً سوادء
تعصر قلبها عصرا

قطارُ الحُسنِ مرَّ بها
ولم يتركْ سوى الذكرى

ولم يترك من النهدينِ
إلا الليفَ والقِشرا

لقد بدأت سفينتها
تغوصُ .. وتلمسُ القعرا ..

 أراقبها .. وقد جلستْ
بركنٍ ، تُصلحُ الشعرا

تصفعُهُ .. وتخربُهُ
وترسلُ زفرةً حرَّى

 تلوبُ .. تلوبُ .. في الرُدُهاتِ ..
مثلَ ذبابة حيرى ..

 وتقبعُ في محارتها
كنهرٍ . لم يجدْ مجرى ..

 

اعلى

 

إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني

 

مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..
ومقصوصة، كجناح أبيك، هي المفردات

فكيف يغني المغني؟
وقد ملأ الدمع كل الدواة..

وماذا سأكتب يا بني؟
وموتك ألغى جميع اللغات..

لأي سماء نمد يدينا؟
ولا أحدا في شوارع لندن يبكي علينا..

يهاجمنا الموت من كل صوب..
ويقطعنا مثل صفصافتين
فأذكر، حين أراك، عليا
وتذكر حين تراني، الحسين

أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..

وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية .. وبقايا قمر

أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي

وألثم قمصانك العاطرات..
ورسمك فوق جواز السفر

وأصرخ مثل المجانين وحدي
وكل الوجوه أمامي نحاس
وكل العيون أمامي حجر

فكيف أقاوم سيف الزمان؟
وسيفي انكسر..

سأخبركم عن أميري الجميل
سأخبركم عن أميري الجميل
عن الذي كان مثل المرايا نقاء، ومثل السنابل طولا..
ومثل النخيل..

وكان صديق الخراف الصغيرة، كان صديق العصافير
كان صديق الهديل..

سأخبركم عن بنفسج عينيه..
هل تعرفون زجاج الكنائس؟
هل تعرفون دموع الثريات حين تسيل..

وهل تعرفون نوافير روما؟
وحزن المراكب قبل الرحيل

سأخبركم عنه..
كان كيوسف حسنا.. وكنت أخاف عليه من الذئب
كنت أخاف على شعره الذهبي الطويل

وأمس أتوا يحملون قميص حبيبي
وقد صبغته دماء الأصيل

فما حيلتي يا قصيدة عمري؟
إذا كنت أنت جميلا..
وحظي قليل..

لماذا الجرائد تغتالني؟
وتشنقني كل يوم بحبل طويل من الذكريات

أحاول أن لا أصدق موتك، كل التقارير كذب

وكل كلام الأطباء كذب
وكل الأكاليل فوق ضريحك كذب..
وكل المدامع والحشرجات..

أحاول أن لا أصدق أن الأمير الخرافي توفيق مات..
وأن الجبين المسافر بين الكواكب مات..
وأن الذي كان يقطف من شجر الشمس مات..
وأن الذي كان يخزن ماء البحار بعينيه مات..
فموتك يا ولدي نكتة .. وقد يصبح الموت أقسى النكات

أحاول أن لا أصدق . ها أنت تعبر جسر الزمالك،
ها أنت تدخل كالرمح نادي الجزيرة
تلقي على الأصدقاء التحية،

تمرق مثل الشعاع السماوي بين السحاب وبين المطر..
وها هي شفتك القاهرية، هذا سريرك، هذا مكان
جلوسك، ها هي لوحاتك الرائعات..

وأنت أمامي بدشداشة القطن، تصنع شاي الصباح،
وتسقي الزهور على الشرفات..

أحاول أن لا أصدق عيني..
هنا كتب الطب ما زال فيها بقية أنفاسك الطيبات
وها هو ثوب الطبيب المعلق يحلم بالمجد والأمنيات

فيا نخلة العمر .. كيف أصدق أنك ترحل كالأغنيات
وأن شهادتك الجامعية يوما .. ستصبح صك الوفاة!!

أتوفيق..
 

لو كان للموت طفل، لأدرك ما هو موت البنين

ولو كان للموت عقل..
سألناه كيف يفسر موت البلابل والياسمين

ولو كان للموت قلب ..
تردد في ذبح أولادنا الطيبين.

أتوفيق يا ملكي الملامح..
يا قمري الجبين..

صديقات بيروت منتظرات..
رجوعك يا سيد العشق والعاشقين..

فكيف سأكسر أحلامهن؟
وأغرقهن ببحر الذهول
وماذا أقول لهن حبيبات عمرك، ماذا أقول؟

أتوفيق ..
إن جسور الزمالك ترقب كل صباح خطاك
وإن الحمام الدمشقي يحمل تحت جناحيه دفء هواك
فيا قرة العين .. كيف وجدت الحياة هناك؟

فهل ستفكر فينا قليلا؟
وترجع في آخر الصيف حتى نراك..

أتوفيق ..
إني جبان أمام رثائك..
فارحم أباك..

اعلى

 

كان ولدي .. فصار ولدكم


 

كان ولدي .. فصار ولدكم ..

 في العاشر من شهر آب، مات ابني توفيق في لندن.

توقف قلبه عن العمل، كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب، وهو على بعد خطوتين من الشمس ..

كان توفيق أميراً دمشقياً جميلاً ..

كان طويلا كالزرافة، وشفافاً كالدمعة، وعالي الرأس كصواري المراكب. وكانت تتبعه إذا مشى، أزهار اللوتس، وشقائق النعمان، وغزلان الصحراء.

هل الموت رجل، أم هو امرأة؟

لم أكن أناقش جنس الموت من قبل.

 ولكن بعد أن ذهب توفيق، بكل وسامته، وملاحته، وصورته اليوسفيّة، تأكدت أن الموت امرأة .. ربطت خصلات شعره الأشقر بمنديلها الحريري .. وخطفته إلى بيتها قبل أن تخطفه واحدة من بنات الأرض.

 فيا سيدتي التي تخبئين ولدي في غرفة نومك التي ستائرها غمام، وشراشفها غمام، ومخداتها غمام.

لا اعتراض لي على زواج توفيق منك ..

 فأنا أب عصري أحترم العشق .. وأقف مع العشاق في جميع معاركهم، ولكن من حقي – كأب – أن أعقد ربطة عنق توفيق في ليلة عرسه ..

إنني أنحني أمام رهافة ذوقك، وروعة اختيارك، يا من تستحمين الآن مع ولدي في مياه السحب البنفسجية .. وتقطفين له الفاكهة من بساتين الله ..

 ليس في نيتي أن أذهب إلى المحاكم، وأقيم عليك الدعوى بتهمة اختطاف طالب في السنة الثالثة من كلية الطب.

إنني أعرف سلفاً أن دعواي مردودة، وأن جميع القضاة في العالم – إذا رأوا صورة توفيق معك – حكموا لك بالبراءة .. وحكموا عليّ بالصبر ..

إنني أعرب سلفاً إنك لن تعيديه إليّ ..

من ذا الذي يختطف ملكاً خرافي الملامح مثل توفيق، ويرضى أن يعيده إلى العرش؟

 كنت أتصور أن موت ابني هو قضية خصوصية بينـي وبينه .. لكن الذي حدث كذّب جميع تصوراتي.

فما أن خرج توفيق من بيتي حتى انفتحت أمامه أبواب جميع البيوت في العالم العربي.

وما أن ترك توفيق منـزل الأبوة، حتى صار لــه آلاف الآباء والأمهات في كل مكان من هذا الوطن العظيم.

 في دمشق أعطوه سريراً، وفي لبنان كتبوه على أكواز الصنوبر ودفاتر الثلج، وفي مصر أهدوه أغلى ما في خان الخليلي من مصاحف، وفي بغداد أطعموه المنْ والسلوى، وفي السعودية لفّوه بعباءة فيها شيء من أنفاس الرسول، وفي السودان قدموا له عروساً بلون النحاس وخشب الأبنوس، وفي الأردن وضعوا حول عنقه طوقاً من ياسمين أريحا، وفي الكويت والبحرين أهداه صيادو اللؤلؤ أكبر لؤلؤة وجدوها في أعمال البحر.

 آه .. ما أروع الموت بين العرب .. ومع العرب .. آه ما أروع الانتماء إلى القبيلة!

 إن موت توفيق أعادني بدوياً مغرقاً في بداوته، وردّني مرة أخرى إلى بني هاشم، وبني تغلب، وبني مخزوم، وبني تميم، وبني شيبان، وإلى كل أبناء العمومة والخؤولة الذين يقتسمون معك حياتك، ويقتسمون موتك ..

 أما هناك .. أما في لندان .. فإن الموت إعلان مدفوع الأجرة في جريدة "التايمز"، والميت زجاجة حليب فارغة مرمية في الشوارع الخلفية.

 ممرضتك الإسبانية في السان جورج هوسبيتال في لندن تبكي بطريقتها الأندلسية ..

ونحن نبكي عليك بطريقتنا العربية ..

والانكليز يتفرجون على دموعنا كما يتفرجون على نوافير الماء في البيكاديللي سيركيس ..

 أكان لا بد لهذه الإسبانية أن تجيء إلى لندن لتزرع أول زهرة حزن في أواني السان جورج هوسبيتال؟

أكان لا بد لها أن تُقنع الإنكليز .. أن الإنسان هو حيوان يبكي؟

 يا ليتكم حضرتم عرس توفيق في دمشق.

 كل المآذن الدمشقية رفعت أعناقها لترى توفيق .. كل حمائم الجامع الأموي فرشت تحت رأسه أجنحتها البيضاء ..

 كل أشجار الورد البلدي في غوطة الشام، تركت بساتينها وركضت حافية لتعانقه ..

 كل العصافير التي من عمر توفيق، والتي ولدت معه، وكبرت معه، وذهبت إلى المدرسة معه .. رافقت طائرته وهي تنـزل .. تنـزل .. تنـزل كالدمعة على خدّ دمشق ..

 كنت كلما سألته عن قلبه، أخرج قلماً أحمر .. وورقة .. ورسم لي قلبه بشكل وردة جورية.

كان يشرح لي علته بعقلية الطبيب ..
وكنت أعرف – كشاعر – أن عمر الورد الجورّي قصير ..

 المكاتيب التي أرسلها توفيق من هناك .. وألصق عليها طوابع تمثل مشاهد من الجنة .. تؤكد لي أنه بخير ..

كل ما حدث، أنه غيّر محل إقامته ..
كان في ضيافتي، فصار في ضيافتكم ..
كان ولدي، فصار ولدكم.
كان قصيدة حياتي، فصار قصيدة حياتكم.
كان له سرير بين أجفاني، فصار له سرير بين أجفانكم.
كان جواز سفره سورياً، فصار جواز سفره عربياً ..

فيا من جعلتم موت ولدي موتاً عربياً ..
يا من صرختم معي، وبكيتم معي، وأبحرتم معي إلى مرافئ الحزن.
يا من زرعتم سعف النخل، وأغصان الآس على قبر ولدي ..

أرجو أن تعتنوا بهذا الأمير الدمشقي الجميل الذي كان طويلاً كالزرافة، وعالي الرأس كصواري المراكب ..

وأن تشتروا له أقلامًا ملونة .. فقد كان يحب الرسم ..

  

اعلى


 

عن موت البجع والأطفال ..


 

تعرفت هذا الصيف على الموت بصورة شخصية ..

 قابلته وجهاً لوجه في قرية (لوتون) في شمال بريطانيا، ورأيت تقاطيع وجهه بالتفصيل ..

 كان يلبس معطفاً داكناً، ويتنقل بعربته في حقول الريف البريطاني، ليجمع الأزهار النادرة، ويصطاد الأسماك النادرة، ويدعو الأطفال إلى نزهة صباحية معه في غابات المنطقة، وعلى ضفاف بحيراتها.

 وكان جميع الأطفال يداعبون حصان عربته الرمادي، ويتبعونه بلا تردد ..

 وتوفيق كان من جملة الأطفال الذين ركبوا العربة، واستجابوا لنداء الغابات، وأصوات الجنادب الليلية، واغراء بحيرات منطقة Lake District حيث ينام الشاعر الإنكليزي العظيم ووردثورث على سرير من المطر الأزرق .. ويتغطى بشراشف الريح والثلج ..

 لماذا يحب الأطفال ركوب عربة الموت؟

لماذا يتعلقون بمعطف الحوذي، ويعجبون بحصانة ذي العنق الطويل، والحوافر الذهبية؟

لماذا يفضَّل الأطفال أن يلعبوا في حدائق الله .. على أن يلعبوا في حدائقنا؟

 لماذا يحبون الألعاب السماوية، ويفضلون القطارات التي تتجه إلى المجهول .. على القطارات التي تتجه إلى المعلوم؟

 لماذا يمد الأطفال أصابعهم – كراقصات الباليه – إلى العوالم الضوئية .. ونحن نمد أصابعنا إلى المستنقعات الأرضية؟

 لماذا يتصرف الأطفال على طريقة الأنبياء .. والصوفيين .. ونتصرف نحن على طريقة السماسرة والملاكين؟

 لماذا يسعد الأطفال بحضور الموت. ونشقى به؟

 لماذا يتناولونه كأنه قطعة حلوى .. ونتناوله نحن كأنه زجاجة ديمول؟

 إن رحيل توفيق المفاجئ، أكد لي حقيقة لم أكن أعرفها وهي أن الصغار أشجع منا وأكثر منا قدرة على فهم طبيعة هذه الرحلة التي يسمونها الموت ..

 إنهم يستقبلون الموت بحدسهم، ويدركونه إدراكا ميتافيزيكياً وفلسفياً نعجز نحن عن الوصول إلى مستواه ..

 قبل أن يموت توفيق بأيام، قال لأخته هدباء التي سافرت معنا إلى لندن: أتعرفين يا هدباء ماذا يخطر ببالي أن أفعل؟ إنني سآتي بسيارتي من القاهرة، وأبيعها في لندن، وأعيش الحياة طولاً وعرضاً ..

 وعندما قالت له هدباء: وإذا انتهت فلوس السيارة فماذا ستفعل؟ أجابها على الفور: لا تخافي .. سأموت أنا والسيارة معاً ..

وذات يوم، كنت أتمشى مع توفيق في اكسفورد ستريت، ورأينا في إحدى الواجهات قميصا أزرق مخططاً من النوع الذي يعجبه، فقلت له: ما رأيك أن نشتريه؟ قال: ولماذا الاستعجال؟ ان القميص سيبقى .. ولكن هل سأبقى أنا؟

والحقيقة، إن توفيق كان يخطط للرحلة، بسلوكه وكلامه، ولكنه كان يحتفظ بسره في داخله ..

كان يخاف أن يحرجنا إذا أخبرنا عن نيته في الرحيل، لذلك جمع أوراقه وثيابه بصمت، وذهب إلى الريف البريطاني، ليركب العربة التي كانت تنتظره .. وليموت بنفس الطريقة الشعرية التي مات بها الشاعر ووردثورث ..

إن موت الأطفال، مثل موت النجوم، ومثل موت البجع الأبيض، ومثل موت الأسماك الملونة في أوانيها البللورية .. يخلع النفس، ويطفئ قرص الشمس ..

وإذا كان حراما أن يموت البجع النهري، ويتناثر ريشه الأبيض .. بهذه الصورة اللامعقولة .. وإذا كان موت الأسماك الصغيرة هو مأساة لا يحتملها البحر، فإن الإيمان بمن خلق البجع، والسمك، والأطفال، يبقي حبة الفاليوم الوحيدة التي نلجأ اليها لقهر مواجعنا ..

وما دام عقلنا – بكل عجزه ومحدوديته – لا يستطيع أن يفسر موت الورد، وموت الأطفال، وما دام الطب – بكل غروره وادعاءاته، وأشعته ومختبراته – لا يستطيع أن يقول لنا لماذا يموت فتى في الثانية والعشرين .. وتعيش السلحفاة النهرية ألفاً ومائتي عام ..

وما دام الأطباء، يقفون كالمجاذيب، أمام بطن امرأة حامل .. ولا يستطيعون أن يجزموا إذا كان الذي يتحرك في أحشائها هو طفل، أو عصفور، أو نجمة ..

وما دامت كل قلوب البلاستيك التي زرعها الدكتور برنارد وفريقه الطبي، ليست سوى عجلات احتياطية .. ركبوها على سيارات مستهلكة .. وما دام فن جراحة القلب، كالفن الإسكافي، يرقّع جلد الحذاء .. ولكنه لا يعيده جديداً ..

وما دام نهر الموت يجرفنا هذا الجرف الجماعي، ويقذفنا إلى الضفة الثانية، دون أن يكون لدينا الوقت للرفض أو الاحتجاج ..

وما دمنا لسنا أكثر من دمى في مسرح العرائس .. تحركنا يد المخرج حيث تشاء .. ومتى تشاء ..

 فليس أمامنا سوى الاعتراف بمؤلف الرواية، ومخرجها وموزع أدوارها ..

 وإذا سألتموني عن اسم هذا المخرج الكبير .. قلت لكم: هو الله ..

  

اعلى


 

هل احترق بنار الشعر ؟


 

سامحوني إذا قدمت لكم للمرة الثالثة خبز الأحزان ..

كان بودي أن أغيّر قائمة الطعام، فأقدم لكم فطائر محشوة بالفرح، وكافياراً من بحر قزوين، وسيجاراً مستورداً من هافانا ..

كان بودي أن أغيّر موسيقى باخ، وأغيّر هذا الجو الرمادي الذي يلف غرفة الطعام ..

ولكن من أين أشتري خبز الفرح؟

إن كل مخابز بيروت لا تبيع إلا خبز الأحزان ..

أتناول حبة فاليوم، وأحاول أن أنام ..

أحاول أن ألغي بطريقة كيميائية حواسي الخمس ..

أحاول أن أختم بالشمع الأحمر أبواب ذاكرتي .. لأمنع عصافير الماضي من مهاجمتي بمناقيرها الشرسة ..

أحاول أن أنساه بطريقة كيميائية ..

ولكنه كان نخلة عمري .. فكيف يمكن لحبة الفاليوم أن تقطع شجر النخل؟ ..

يوصونني بالليبريوم ..

كذبة جديدة موضوعة في زجاجة .. اشتريتها .. وأحاول أن أرشو بها ذاكرتي ..

عشرون حبة .. كلما أخرجت واحدة منها، خرج لي توفيق كما تخرج اللؤلؤة من محارتها ..

ولكنه كان خاتم الذهب في إصبعي، فكيف يمكن لحبة الليبريوم أن تسرق خاتمي الذهبي؟

كل طبيب أذهب إليه، يعاملني كشجرة ..

يفحص جذعي، وأوراقي، وأغصاني .. ويتجاهل جهازي العصبي ..

يتجاهل غدد الدمع المخبوءة في عيون الشجر ..

يظن أن الأشجار لا تبكي .. ولا تتوجه لفراق عصافيرها المهاجرة في أول الخريف ..

يظن أن الأشجار لا تتذكر أولادها ..

يحاول أن يشرح لي أن الطب الحديث يعتبر الغدد الدمعية كالزوائد الدودية، لا قيمة لها في جسد الإنسان ..

يا سيدي الطبيـب !

هل يمكن أن تشرح لي إذن، كيف سينـزل المطر، وينبت العُشب، وتمتلئ بحار العالم ..

هل يمكن أن تقول لي – إذا صارت مني دموعي – كيف سأكتب الشعر؟

اكتشفت اليوم، إن الكتابة عنه هي أفضل طريقة لاستحضاره. كلما شرعت في الكتابة، أسمع صوت خطاه على الورقة، وحفيف ملابسه وهو يركض بين الحروف، كما يركض أرنب بين سنابل القمح..

يتسلق على (الألف) .. ويجلس على (اللام) .. ويستلقي على (السين) .. وينام حين ينعس في داخل (العين) ..

 لن ألجأ إلى الوسائل القديمة لاستحضاره، كإحراق البخور، والصندل، واستخارة فناجين القهوة، واللجوء إلى وسيط ..

فما دام توفيق موجوداً في حروف الأبجدية .. وما دمت أستطيع أن أراه وأن أسمعه .. كلما فتحت غطاء القلم ..

فسوف أواصل الكتابة ..

أعطوني ساعته معد موته بثلاثة أيام ..

كانت الساعة تضرب .. وقلبه كان متوقفا .. يا للمفارقة ..

هل صارت أعمار الساعات، أطول من أعمارنا؟

هاجمني طوال هذا الأسبوع فكرة غريبة، ظلت تحوم داخل رأسي كطائر أسود .. الفكرة تتعلق بقوانين الوراثة الشعرية، وتأثير الشعر على التركيب العضوي لأولاد الشاعر.

ولما كان الشعر هو مهنة الاحتراق والإحراق، وكان الشاعر هو ذلك الرجل الذي ينقل المواد المتفجرة تحت معطفه، ليلغّم بها العالم .. فلماذا نستبعد فرضية احتراق الأولاد بنار أبيهم؟

إن الشاعر، بمجرد احترافه الكتابة، فإنه يضع أولاده في منطقة الخطر ..

إنني أكتب الشعر منذ خمس وعشرين سنة، وابنى توفيق مات في الثانية والعشرين، أي أن عمر شعري وعمر ابني متقاربان ..

فهل أعتبر نفسي مسؤولاً عن هذا العطب غير الطبيعي في قلب ولدي؟

خمس وعشرون سنة، وأنا أحمل الزلازل في أعماقي، وأركض على أرض من الصفيح المشتعل، والبراكين المفتوحة الأفواه ..

خمس وعشرون سنة، وأنا أبتلع الأسياخ المشتعلة على طريقة الهندوس، وأنزف كالعصفور على صدر حبيبتـي .. أو على صدر وطني ..

خمس وعشرون سنة، وقلبـي يقفز كفهد استوائي بين الأدغال، وحرارة عواطفي لم تنـزل عن الأربعين خطاً واحداً ..

كان قلبي يأخذ كل دقيقة آلاف الأشكال والأحجام ..

كان مرة يأخذ حجم البرتقالة .. ومرة يأخذ حجم كوز الصنوبر، ومرة يأخذ حجم فلسطين ..

كان الحب عندي عملية انتحارية، أذهب إليها .. ووصيتي في جيبـي ..

وكان الشعر عندي معركة بالسلاح الأبيض لا أخرج منها إلا قاتلاً أو مقتولاً ..

كان قلبي دائما مدينة مستنفرَة للحرب .. شبابيكها مطلية باللون الأزرق، وصفارات الإنذار فيها لا تتوقف عن الصراخ ..

هذا هو قلبـي الذي أعطيته لتوفيق ..

فهل تراني مسؤولاً عن هذا المحرك المعطوب الذي أورثته إياه؟

هل أنا مشترك بقتل ولدي؟

جاوبوني .. فإننـي أتعذب ..

 

اعلى

 

عيد ميلاد جرح ..

اليوم يتذكر الجرح عيد ميلاده .. فيبكي ..
وتحتفل الدمعة بمرور عام على انحدارها ..
ويحتفل الخنجر بمرور عام على إقامته في لحمي ..
هل لاحظتم أن الجراح وحدها هي التي تملك ذاكرة قوية،
وأن الفرح لا ذاكرة له ..

 الفرح عصفور من زجاج .. يرتفع عن الأرض عشرة أمتار .. ثم يقع على الأرض .. ويتهشم ..

أما الحزن فهو هذه السنونوة السوداء التي تحمل أولادها، وتعشش على شواطئ العين .. ومدخل القلب .. وترفض أن ترحل ..

 اليوم .. يخرج توفيق من أوراق الروزنامة .. بعد ثلاثمائة وخمس وستين ليلة .. نام فيها خارج البيت ..
هذه أول مرة ينام فيها توفيق خارج البيت ..
أول مرة يسافر من بين أهدابي .. ولا يقول أنه مسافر ..

 أين ذهب توفيق؟

لماذا ترك سريره .. ودشداشته البيضاء .. وأقلامه .. وكُتب التشريح والبيولوجيا والكيمياء العضوية .. وسيارة الموريس الفيروزية التي كانت فرسه الأغلى .. وحبه الأول والأخير ..

أين اختفى توفيق؟
هل ابتلعته سمكة من أسماك البحر؟
أم نطحه وعل بري؟ فمات شهيدا كأدونيس؟
أم حسبته الغابة شجرة من أشجارها .. ورفضت أن تعيده؟
أم أخذته زهرة لوتس إلى قصرها المائي .. وتزوجته سراً ؟
أم تراه سقط في بئر عميقة، والتقطته احدى القوافل وباعته لفرعون مصر ..

لماذا خذلنـي توفيق؟
واختار الذهاب مع (امرأة العزيز)؟ ..
هل وجد فندقاً .. أحسن من قلبي؟

منذ ثلاثمائة وخمس وستين ليلة ..
غادر الفتى توفيق قباني شقته في شارع السيد البكري رقـم 5 في حي الزمالك بالقاهرة ..
كان يلبس بلوفرا من القطن الأزرق كلون عينيه .. حتى لتكاد تقول أنه يلبس سماء البحر الأبيض المتوسط ..

مديد كرمح محارب روماني قديم .. وشامخ الرأس كغمامة .. وهادئ كوجه حكيم اغريقي ..

عمره اثنتان وعشرون سنة .. وشعره أشقر كلون حقول القمح في تموز ..

منذ العاشر من شهر آب 1973، وأخبار توفيق مقطوعة، وبريده لا يصل ..

بحثنا عنه في كل مكان ..
تقدمنا بشكوى إلى البوليس ..
نشرنا صوره في كل الجرائد ..
عممنا أوصافه على كل المخافر ..
خصصنا جائزة كبرى لمن يعثر على خصلة واحدة من خصلات شعره الذهبـي ..

بعد اختفاء توفيق بأيام ..
تلقيت مكالمة هاتفية من عصفور لم يذكر اسمه .. قال لي فيها إنه شاهد ثياب توفيق معلّقة على شجرة من أشجار القمر ..

ومنذ ذلك التاريخ .. وأنا أهز أشجار القمر .. شجرة .. شجرة .. علّها تعيد لي ثياب حبيبـي ..

اعتذر المحققون عن مواصلة التحقيق في قضية اختفاء توفيق ..

قالوا: إن أجهزة استخباراتهم لا تستطيع اكتشاف العطر الضائع .. وأنه لم يعد أمامي من طرق المراجعة سوى (الشكوى لله ..)

وها أنذا أشكو حزني إلى أعظم سلطة قضائية يرجع اليها الانسان .. وهي (الله) ..

ومنذ رفعت أمري (إليه) .. بدأت أشعر بالراحة .. وأطمئن على أن توفيق يقيم في السماء .. في فندق من فنادق الدرجة الأولى .. وأنه منذ تركنا في السنة الماضية .. وهو يلعب في حدائق الله .. وينام في بساتين الله .. وينـزل في ضيافة الله ..

 سيارة (الموريس ميني) لا تزال تنتظر عودته .. تشتاق إليه .. كما تشتاق الفرس إلى فارسها .. وتقلق عليه، كما تقلق الأم على ولدها المسافر ..

آه .. كم كانت سيارته تشبهه ..
آه .. كم كان يشبهها ..
علاّقة المفاتيح المنتهية بحرف
T تسأل عنه ..
والنظارات السوداء تسأل عنه ..
والمصحف الفضي الصغير المعلق على الزجاج الأمامي .. يسأل عنه ..

من قال ان الهياكل المعدنية للسيارات لا تعاني من العشق كما نعاني، ولا تذوب حنيناً كما نذوب؟
من قال ان الحديد لا يبكي؟
إذا لم تصدقوا .. فتعالوا واسألوا الجيران ..
وسيخبرونكم كيف تموء سيارة توفيق .. عندما ينتصف الليل .. كما تموء قطة مفطومة عن الحليب ..

يا حبيبـي توفيق !
هل تصلكم الصحف إلى هناك؟
وهل قرأت فيها أن أختك هدباء وضعت مولوداً ذكراً أسمّته (توفيق)؟

لقد كانت هدباء مصممة على أن تحمل بك .. وكانت متأكدة أن الذي في بطنها .. هو أنت ..
وشاء الله أن لا يكسر أحلام هدباء فوهبها توفيق الثاني .. فكأنها من فرط شوقها إليك .. قد ولدتك..

 

اعلى

 قصيدة بلقيس

شكرا لكم
شكرا لكم

فحبيبتي قتلت . . وصار بوسعكم
أن تشربوا كأسا على قبر الشهيدة

وقصيدتي اغتيلت
وهل من أمة في الأرض
إلا نحن نغتال القصيدة ؟

بلقيس
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل

بلقيس
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي
ترافقها طواويس
وتتبعها أيائل

 يا بلقيس، يا وجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل

هل يا ترى
من بعد شَعْرِكِ سوف ترتفع السنابل؟

يا نينوى الخضراء
يا غجريتي الشقراء
يا أمواج دجلة
تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل

قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية
تلك التي
تغتال أصوات البلابل؟

بلقيس
لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك
لا تضيء على السواحل

 أين السموأل ؟
والمهلهل ؟
والغطاريف الأوائل ؟

فقبائل أكلت قبائل
وثعالب قتلت ثعالب
وعناكب قتلت عناكب

قسماً بعينيك اللتين إليهما
تأوي ملايين الكواكب

 سأقول، يا قمري
عن العرب العجائب

فهل البطولة كذبة عربية ؟
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟

بلقيس
لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك
لا تضيئ على السواحل

سأقول في التحقيق
إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل

وأقول في التحقيق
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول

وأقول
إن حكاية الإشعاع، أسخف نكتة قيلت
فنحن قبيلة بين القبائل

هذا هو التاريخ يا بلقيس
كيف يفرق الإنسان
ما بين الحدائق والمزابل
 

بلقيس
أيتها الشهيدة . . والقصيدة
والمطهرة النقية

سبأ تفتش عن مليكتها
فردي للجماهير التحية

 يا أعظم الملكات
يا امرأة تجسد كل أمجاد العصور السومرية

بلقيس
يا عصفورتي الأحلى
ويا أيقونتي الأغلى
ويا دمعا تناثر فوق خد المجدلية

أترى ظلمتك إذ نقلتك
ذات يوم من ضفاف الأعظمية

 بيروت تقتل كل يوم واحدا منا
وتبحث كل يوم عن ضحية

 والموت في فنجان قهوتنا
وفي مفتاح شقتنا
وفي أزهار شرفتنا
وفي ورق الجرائد
والحروف الأبجدية

 ها نحن .. يا بلقيس
ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية

 هانحن ندخل في التوحش
والتخلف .. والبشاعة.. والوضاعة
ندخل مرة أخرى . .عصور البربرية

 حيث الكتابة رحلة
بين الشظية .. والشظية

 حيث اغتيال فراشة في حقلها
صار القضية

 هل تعرفون حبيبتي بلقيس؟
فهي أهم ما كتبوه في كتب الغرام

كانت مزيجا رائعا
بين القطيفة والرخام

كان البنفسج بين عينيها
ينام ولا ينام

بلقيس
يا عطرا بذاكرتي
ويا قبرا يسافر في الغمام

قتلوك في بيروت، مثل أي غزالة
من بعدما . . قتلوا الكلام

بلقيس
ليست هذه مرثية
لكن
على العرب السلام

بلقيس
مشتاقون . . مشتاقون . . مشتاقون
والبيت الصغير
يسائل عن أميرته المعطرة الذيول

نصغي إلى الأخبار . . والأخبار غامضة
ولا تروي فضول

بلقيس
مذبوحون حتى العظم
والأولاد لا يدرون ما يجري
ولا أدري أنا . . ماذا أقول ؟

 هل تقرعين الباب بعد دقائق؟
هل تخلعين المعطف الشتوي؟
هل تأتين باسمة
وناضرة
ومشرقة كأزهار الحقول؟

بلقيس
إن زروعك الخضراء
ما زالت على الحيطان باكية
ووجهك لم يزل متنقلا
بين المرايا والستائر

 حتى سيجارتك التي أشعلتها
لم تنطفئ
ودخانها
ما زال يرفض أن يسافر

بلقيس
مطعونون . . مطعونون في الأعماق
والأحداق يسكنها الذهول

بلقيس
كيف أخذت أيامي . . وأحلامي
وألغيت الحدائق والفصول

يا زوجتي
وحبيبتي . . وقصيدتي . . وضياء عيني
قد كنت عصفوري الجميل
فكيف هربت يا بلقيس مني ؟

بلقيس
هذا موعد الشاي العراقي المعطر
والمعتق كالسلافة
فمن الذي سيوزع الأقداح
أيتها الزرافة

 ومن الذي نقل الفرات لبيتنا
وورود دجلة والرصافة ؟

 بلقيس
إن الحزن يثقبني
وبيروت التي قتلتك . . لا تدري جريمتها
وبيروت التي عشقتك
تجهل أنها قتلت عشيقتها
وأطفأت القمر

 

بلقيس
يا بلقيس
يا بلقيس

 كل غمامة تبكي عليك
فمن ترى يبكي عليا

 بلقيس . .كيف رحلت صامتة
ولم تضعي يديك ..على يديا؟

بلقيس
كيف تركتنا في الريح
نرجف مثل أوراق الشجر؟

وتركتنا نحن الثلاثة ضائعين
كريشة تحت المطر

أتراك ما فكرت بي ؟
وأنا الذي يحتاج حبك . . مثل زينب وعمر

بلقيس
يا كنزا خرافيا
ويا رمحا عراقيا
ويا غابة خيزران

يا من تحديت النجوم ترفعا
من أين جئت بكل هذا العنفوان؟

بلقيس
أيتها الصديقة .. والعفيفة
والرقيقة مثل زهرة أقحوان

ضاقت بنا بيروت .. ضاق البحر
ضاق بنا المكان

بلقيس : ما أنت التي تتكررين
ما لبلقيس اثنتان

بلقيس
تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا
وتجلدني الدقائق والثواني

فلكل دبوس صغير قصة
ولكل عقد من عقودك قصتان

 حتى ملاقط شعرك الذهبي
تغمرني كعادتها، بأمطار الحنان

ويعرش الصوت العراقي الجميل
على الستائر
والمقاعد
والأواني

ومن المرايا تطلعين
من الخواتم تطلعين
من القصيدة تطلعين
من الشموع
من الكؤوس
من النبيذ الأرجواني

بلقيس .. يا بلقيس
لو تدرين ما وجع المكان

في كل ركن . . أنت حائمة كعصفور
وعاقبة كغابة بيلسان

 فهناك كنت تدخنين
هناك كنت تطالعين
هناك كنت كنخلة تتمشطين
وتدخلين على الضيوف
كأنك السيف اليماني

 بلقيس
أين زجاجة الغيرلان ؟

والولاعة الزرقاء
أين سجارة الكنت التي ما فارقت شفتيك ؟
أين الهاشمي مغنيا
فوق القوام المهرجان

تتذكر الأمشاط ماضيا
فيكرج دمعها
هل يا ترى الأمشاط من أشواقها أيضا تعاني؟

بلقيس : صعب أن أهاجر من دمي
وأن أحاصر بين ألسنة اللهيب
وبين ألسنة الدخان

 بلقيس : أيتها الأميرة
ها أنت تحترقين . . في حرب العشيرة والعشيرة
ماذا سأكتب عن رحيل مليكتي ؟
إن الكلام فضيحتي

 ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا
عن نجمة سقطت
وعن جسد تناثر كالمرايا

 ها نحن نسأل يا حبيبة
إن كان هذا القبر قبرك أنت
أم قبر العروبة

 بلقيس :
يا صفصافة أرخت ضفائرها عليّ
ويا زرافة كبرياء

بلقيس :
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب
ويأكل لحمنا عرب
ويفتح قبرنا عرب
فكيف نفر من هذا القضاء ؟

فالخنجر العربي .. ليس يقيم فرقاً
بين أعناق الرجال
وبين أعناق النساء

بلقيس :
إن هم فجروك .. فعندنا
كل الجنائز تبتدي في كربلاء
وتنتهي في كربلاء

 لن أقرأ التاريخ بعد اليوم
إن أصابعي اشتعلت
وأثوابي تغطيها الدماء

هانحن ندخل عصرنا الحجري
نرجع كل يوم، ألف عام للوراء …

البحر في بيروت . .
بعد رحيل عينيك استقال
والشعر يسأل عن قصيدته
التي لم تكتمل كلماتها
ولا أحد . . يجيب على السؤال

الحزن يا بلقيس
يعصر مهجتي كالبرتقالة

 الآن . . أعرف مأزق الكلمات
أعرف ورطة اللغة المحالة

 و أنا الذي اخترع الرسائل
لست أدري . . كيف أبتدئ الرسالة

السيف يدخل لحم خاصرتي
وخاصرة العبارة

كل الحضارة أنت يا بلقيس
والأنثى حضارة

بلقيس : أنت بشارتي الكبرى
فمن سرق البشارة ؟

أنت الكتابة قبلما كانت كتابة
أنت الجزيرة والمنارة

بلقيس
يا قمري الذي طمروه ما بين الحجارة
الآن ترتفع الستارة
الآن ترتفع الستارة

سأقول في التحقيق
إني أعرف الأسماء .. والأشياء.. والسجناء
والشهداء .. والفقراء .. والمستضعفين

وأقول إني أعرف السياف قاتل زوجتي
ووجوه كل المخبرين

وأقول إن عفافنا عهر
وتقوانا قذارة

وأقول : إن نضالنا كذب
وأن لا فرق
ما بين السياسة والدعارة

سأقول في التحقيق :
كيف غزالتي ماتت بسيف أبي لهب

 كل اللصوص من الخليج إلى المحيط
يدمرون .. ويحرقون ..
وينهبون .. ويرتشون
ويعتدون على النساء
كما يريد أبو لهب

 كل الكلاب موظفون
ويأكلون
ويسكرون
على حساب أبي لهب

لا قمحة في الأرض
تنبت دون رأي أبي لهب

لا طفل يولد عندنا
إلا وزارت أمه يوماً
فراش أبي لهب !!

لا سجن يفتح
دون رأي أبي لهب

لا رأس يقطع
دون أمر أبي لهب

سأقول في التحقيق :
كيف أميرتي اغتصبت
وكيف تقاسموا فيروز عينيها
وخاتم عرسها
وأقول كيف تقاسموا الشعر الذي
يجري كأنهار الذهب

سأقول في التحقيق :
كيف سطوا على آيات مصحفها الشريف
وأضرموا فيه اللهب

سأقول كيف استنزفوا دمها
وكيف استملكوا فمها
فما تركوا به ورداً ولا تركوا عنب

هل موت بلقيس
هو النصر الوحيد
بكل تاريخ العرب ؟

بلقيس
يا معشوقتي حتى الثمالة

الأنبياء الكاذبون
يقرفصون
ويكذبون على الشعوب
ولا رسالة

لو أنهم حملوا إلينا
من فلسطين الحزينة
نجمة
أو برتقالة

لو أنهم حملوا إلينا
من شواطئ غزة
حجراً صغيراً
أو محارة
 
لو أنهم من ربع قرن حرروا
زيتونة
أو أرجعوا ليمونة
ومحوا عن التاريخ عاره

لشكرت من قتلوك يا بلقيس
يا معبودتي حتى الثمالة
لكنهم تركوا فلسطيناً
ليغتالوا غزالة !!

سأقول في التحقيق :
إني قد عرفت القاتلين

وأقول :
إن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين

وبقتل كل الأنبياء
وقتل كل المرسلين

حتى العيون الخضر
يأكلها العرب

حتى الضفائر والخواتم
والأساور والمرايا .. واللعب

حتى النجوم تخاف من وطني
ولا أدري السبب

حتى الطيور تفر من وطني
و لا أدري السبب

حتى الكواكب .. والمراكب .. والسحب
حتى الدفاتر .. والكتب
وجميع أشياء الجمال
جميعها .. ضد العرب

لما تناثر جسمك الضوئي
يا بلقيس لؤلؤة كريمة

فكرت : هل قتل النساء هواية عربية
أم أننا في الأصل محترفو جريمة ؟

بلقيس
يا فرسي الجميلة . . إنني
من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول

من يوم أن نحروك
يا بلقيس
يا أحلى وطن
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن

 ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء
كي أسعد الدنيا . . ولكن السماء
شاءت بأن أبقى وحيدا
مثل أوراق الشتاء

هل يولد الشعراء من رحم الشقاء ؟
وهل القصيدة
طعنة في القلب ليس لها شفاء ؟

أم أنني وحدي الذي
عيناه تختصران تاريخ البكاء ؟

بلقيس . .يا بلقيس
يا دمعا ينقط فوق أهداب الكمان

علمت من قتلوك أسرار الهوى
لكنهم قبل انتهاء الشوط
قد قتلوا حصاني

ماذا يقول الشعر يا بلقيس
في هذا الزمان ؟

 ماذا يقول الشعر ؟
في العصر الشعوبي
المجوسي
الجبان

والعالم العربي
مسحوق ومقموع
ومقطوع اللسان

نحن الجريمة في تفوقها
فما ( العقد الفريد ) وما ( الأغاني ) ؟؟

أخذوك أيتها الحبيبة من يدي
أخذوا القصيدة من فمي
أخذوا الكتابة والقراءة
والطفولة والأماني

بلقيس
أسألك السماح فربما
كانت حياتك فدية لحياتي

إني لأعرف جيدا
أن الذين تورطوا في القتل كان مرادهم
أن يقتلوا كلماتي

نامي بحفظ الله أيتها الجميلة
فالشعر بعدك مستحيل
والأنوثة مستحيلة

ستظل أجيال من الأطفال
تسأل عن ضفائرك الطويلة
وتظل أجيال من العشاق
تقرأ عنك أيتها المعلمة الأصيلة

 وسيعرف الأعراب يوماً
أنهم قتلوا الرسولة

قتلوا الرسولة

ق ت ل و ا

ا ل ر س و ل ة

 

اعلى

 

بلقيس.. زعيمة للمعارضة!!

 

حين كتبت ( قصيدة بلقيس ) لم أتوقع أن يصبح جرحي بحجم الخريطة العربية.. ولم أتوقع أن تصبح دموعي بمساحة جميع البحار والأنهار في الوطن العربي.

 ثم لم أتوقع أن ُيسقط الجمهور العربي احتجاجه، وقرفه، وغضبه المكظوم على القصيدة، بحيث أصبحت ( فشة خلق ) لكل من يريد أن يتكلم ولا يستطيع الكلام.. ويتمنى أن يبكي ولا يستطيع البكاء..

لقد خطف الشعب العربي القصيدة من يدي.. كما خطف نعش جمال عبد الناصر في أيلول ( سبتمبر ) 1970 من يد السلطة.. ودفنه في أهداب عينيه..

وكان عبد الناصر سعيدا بأن يدفن في مقبرة مصنوعة من أهداب الشعب..

لم يبق بيت عربي لم يبك بلقيس..
ولم تبق غمامة لم تبلل قبرها بالدموع..
ولم تبق يمامة لم تحمل لها زهرة ياسمين.. أو أغنية عشق..

هل كان العرب ياترى يبكون على بلقيس.. أم يبكون على أنفسهم؟

 لم تكن ( قصيدة بلقيس ) نصا من النصوص الأدبية الكلاسيكية.. أو نموذجا من نماذج البلاغة، أو رواية تتلى حلقاتها في المقاهي الشعبية كل ليلة..

إنها باختصار ثأر الشعب العربي من خلفائه غير الراشدين.. ووثيقة احتجاج قدمتُها بالنيابة عن 150 مليون عربي إلى من يهمهم الأمر..
وقد تبلغوا الرسالة..

أحيانا، لا يستطيع شعب من الشعوب أن يبكي بصورة علنية.. فتأتي قصيدة شعر.. لتتولى البكاء عنه.. وأحيانا، يتعذر على شعب من الشعوب، لألف سبب وسبب، أن يمارس حقه الطبيعي في الانتخاب والتصويت.. فتأتي قصيدة شعر لتقوم بعملية التصويت..

وأحيانا، تتوقف اللغة نهائيا عن ممارسة وظيفتها، وتموت الأفعال والأسماء والضمائر.. فتأتي قصيدة شعر، لتعيد الأمور إلى نصابها، وتعيد للكلام شرفه وعنفوانه..

 وأحيانا، لا يستطيع شعب من الشعوب، لسباب بوليسية وفاشستية لا ضرورة لذكرها، أن يؤسس حزبا للمعارضة.. فتتولى قصيدة شعر تأسيس هذا الحزب بالوكالة عن الأكثرية الصامتة.. أو المرغمة على الصمت..

وهذا ما حدث على أرض الواقع، إذ تحولت بلقيس بعد نشر قصيدتها، من مجرد زوجة.. وأم لطفلين.. إلى حزب كبير للمعارضة لم تجرؤ السلطة على منعه.. أو الوقوف في وجهه..

كنت أعتقد أن حزن الشاعر هو حزنه وحده.
وفجيعته تخصه وحده..
وحرائقه الداخلية تحرقه وحده..
إلى أن ماتت بلقيس..

وعرفت أن ما يسمى بالأدب الذاتي هو كذبة كبرى.. وأن أحزان الشاعر، كالأمطار الاستوائية، تنزل في كل مكان..

قد تكون خصوصية الحزن، أو خصوصية الفرح، ممكنة بالنسبة للآخرين.. أما الشاعر فلا يستطيع أن يحزن وحده.. أو يموت وحده.. إن العالم لا يسمح له بمثل هذا الترف..

كتبت ( قصيدة بلقيس ) بين غرفة العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.. وبين الغرفة رقم 504 في جناح أمراض القلب..

لذلك أرجو ممن يمطروني بمواعظهم القومية والأخلاقية، وأنا أضع ابرة المصل في ذراعي، أن يريحوني من محفوظاتهم المدرسية عن الوطن والوطنية..

كما أرجو ممن وجدوها فرصة للتسلق على أكتاف حزني.. وأكتاف قصيدتي.. أن يبحثوا عن طريقة اخرى للعيش..

والله يرزق النمل حيث كان..

إلى النقاد الأفاضل الذين شتموني لأني خدشت حياء العرب.. واعتديت على عذريتهم.. واتهمتهم أمام المدعي العام بقتل زوجتي..

إلى الذين لا يزالون يصدقون أن العرب هم خير أمة أخرجت للناس.. وأنهم من جنس الملائكة.. فلا يدوسون على نملة.. ولا يذبحون خروفا.. أو إنسانا.. إلا بفتوى من المحكمة الشرعية.. أو المحكمة العسكرية..

إلى الذين لا يزالون ينامون على فراش التاريخ.. ويشخرون.. ويتاجرون ببطولات غيرهم.. ويربحون.. أقدم اعتذاري..

فقد ثبت لي من آخر التقارير التي وصلتني.. أن الذين قتلوا بلقيس هم من زيمبابوي..

كان عندي نبوءة، بأن القراء سيتعاطفون مع قصيدتي إنسانيا ووجدانيا وعاطفيا، لكنني لم أتوقع أن تتحول القصيدة إلى ( مانيفستو ) سياسي.. ومنشور سري ينتقل من يد إلى يد ككرة النار..

منذ أن صدرت القصيدة في " المستقبل " فقدنا السيطرة عليها، نبيل خوري.. وأنا..
لم يعد نبيل يملك شيئا من مجلته..
ولم أعد أملك شيئا من قصيدتي..

 إنقض الشعب العربي علينا.. ودون أن يستأذننا، أو يطلب موافقتنا وضع يده على 104 آلاف عدد من أعداد المجلة.. معتبرا القصيدة جزءا من الأملاك العامة كالماء والكهرباء والجسور والطرقات.. والمناجم..

بكلمة واحدة قام الشعب العربي ( بتأميم ) القصيدة.. وأدخلها في عداد ثروته القومية..

وبما أنني أؤمن بالطبيعة الاشتراكية للشعر.. فقد تركت الناس يأكلون قصيدتي.. لأن الناس إذا شبعوا شبعت.. وإذا جاعوا للحرية مت معهم جوعا..

هل تعرف بلقيس، وهي تتبختر كالغزالة في بساتين الجنة، أن دمها أخذ لون التاريخ.. وأن جسدها أخذ شكل تضاريس الأرض.. وأن عينيها صارتا وطنا لكل الخائفين ؟؟

ليس صحيحا أن الشعر فقد سلطانه القديم، وأضاع نفوذه وقدرته على التأثير بالمجتمع العربي..

وليس صحيحا ما يقال عن سقوط الشعر، في هذا العصر العربي الاستهلاكي.. عصر الصفقات، والمقاولات، والكومسيونات..

وليس صحيحا أن التلفزيون ومشتقاته.. والفيديو ومشتقاته.. ومطربات وراقصات النفط ومشتقاتهن.. قد ربحوا المعركة ضد الشعر، بالضربة القاضية..

ثم ليس صحيحا أن الشاعر فقد موقعه الإستراتيجي السابق، أيام كان عضوا بارزا في مراكز القوى، تقع عليه مسؤولية التخطيط السياسي، والثقافي، والإعلامي، والتوعية الشعبية.

إن ( قصيدة بلقيس ) كانت رد الشعر، على كل الإشاعات الكاذبة التي تزعم أن الشعر قد مات وشبع موتا.. وأن القصيدة صارت امرأة عجوز لايقترب منها أحد.. ولايتزوجها أحد.. ولامكان لها في الحياة العربية.

لقد أكدت ( قصيدة بلقيس ) أن دور الشعر في المجتمع العربي لايزال دورا خطيرا وفاعلا، وأن الأنسان العربي - رغم قلة الغذاء.. وقلة الهواء.. وقلة الحظ.. وقلة الحرية -  لايزال يعتبر الشاعر بطلا من أبطال الأساطير.. لايقهر.. ولايهزم.

ومهما كانت الإحباطات التي يمر بها الوطن العربي، ومهما كانت العتمة شاملة، وخيبات الأمل متعاقبة، فإن دم الأنسان العربي لايزال دما شعريا.. ولا أظن أن هذا الدم سيتحول ذات يوم إلى ماء.. أو إلى عرقسوس..

بشكل غريزي وتلقائي، التف الشعب العربي حول ( قصيدة بلقيس ).. نقلها.. وصورها.. وطبعها على الآلات الناسخة.. واشتراها في السوق السوداء.. وهربها تحت ثيابه.. أو في ذاكرته.. كالأفيون والكوكايين..

إنني لم أشتغل في حياتي بتهريب المخدرات..
ولم أكن في حياتي حشاشا..
ولكن أعاجيب هذا العصر العربي ومفارقاته.. جعلتنا جميعا حشاشين..

أنا مسؤول عن قصيدتي كما بيكاسو مسؤول عن لوحته الشهيرة ( غيرينكا ).
وكما الموسيقار سيبيليوس مسؤول عن ( فنلنديا )
وكما شوبان مسؤول عن ال ( بولونيز )
مسؤول عن ولادتها.. وعن فصيلة دمها.. وعن أبوتي لها..
مسؤول حتى اللحظة التي انفصلت فيها عني..

 أما أن تتحول القصيدة بعد ذلك إلى مادة للحرب السياسية، والاعلامية، والايديولوجية بين الأنظمة العربية المتصارعة، وأن اصبح نارا في آتون الحرب المشتعلة بين الأوس والخزرج.. وبين الغساسنة والمناذرة.. وبين المهاجرين والأنصار.. وبين العرب العاربة والعرب المستعربة.. وبين أصحاب المذهب الشافعي وأصحاب المذهب الحنفي.. وبين المؤمنين بتعاليم محمد بن عبد الله.. والمؤمنين بتعاليم محمد ماوتسي تونغ.. وبين فرقة اخوان الصفاء.. والفرقة 16.. فهو خارج مسؤوليتي..

 إنني أكتب القصيدة.. ولكني لا أعرف، بعد أن تكتمل أنوثتها، مع أي رجل ستذهب..

 صحيح أن التربية البيتية لها حق، وأن البنت إذا نشأت في جو صالح ومحافظ، فلا يمكن أن تفلت.. أما القصيدة فهي ليبرالية ومجنونة وفلتانة بالوراثة.. ولايمكن لأحد أن يتعهدها أو يكفلها.. ولو بقرش واحد..

 هل يكفل أحد امرأة مجنونة ؟

روى لي صديقي الروائي الكبير الطيب الصالح، أنه قرأ ( قصيدة بلقيس ) في إحدى السهرات الدبلوماسية في باريس، وأن الحاضرين والحاضرات غرقو بأمطار دموعهم، وتفجروا شجنا والتياعا وهم يتابعون أبيات القصيدة، وما أن انتهى الطيب الصالح من القراءة، حتى قالت إحدى الحاضرات والدموع تبلل أهدابها:

" إذا كان ثمة رجل يقدر أن يرثيني بعد موتي بمثل هذا الكلام الجميل.. فإنني مستعدة أن أموت على الفور.. "

 يا سيدتي:
لا أريدك أن تموتي لأكتب فيك كلاما جميلا..
ولا تمنيت أن تموت بلقيس لأكتب فيها كلاما جميلا.
فحياة امرأة نحبها.. هي أجمل وأغلى من مليون ديوان شعر..

 

اعلى

 

25 وردة في شعر بلقيس

 

-1-

كنت أعرف أنها سوف تُقتل
وكانت تعرف أنني سوف اُقتل
وقد تحققت النبوءتان ..

سقطت هي كالفراشة، تحت أنقاض الجاهلية
وسقطتُ أنا .. بين أنياب عصر عربي

يفترس القصائد
وعيون النساء .
ووردة الحرية ..

-2-

كنت أعرف أنها سوف تُقتل
وأن أنوثتها لن تشفع لها .
فالأنوثة في هذا الوطن الممتد جـغـرافـيا
من البشاعة إلى البشاعة

ومن الـقـذ يـفـة إلى الـقـذ يـفـة
ليست سبـبا تخفيفيا

يحمي الحمائم من الذبح
ولا تعطي امتيازا للأمهات لكي يكملن إرضاع أطفالهن ..

-3-

كنت أعرف أنها سوف تقتل
فقد كانت جميلة في عصر عربي قبيح
وكانت نقية في عصر عربي ملوث
وكانت نبيلة في عصر الصعاليك
وكانت لؤلؤة نادرة

بين أكداس اللؤلؤ الصناعي
وكانت امرأة مـتـفردة
..

بين أرتال النساءِ المتشابهات

-4-

كنت أعرف أنها سوف تقتل
ففيها تجسدت حضارة ما بين النهرين
ونحن متخلفون ..

هي مقام بغداديٌّ رائع
ونحن لا نسمع ..

 هي قصيدة عباسية
ونحن لا نقرأ ..

 هي فصلٌ من ملحمة ( جلجامش )
ونحن أميّـون
..

هي أجمل ما كُـتِـبَ من شعر
ونحن أردأ ما كـُـتب من نثر ..

-5-

كنت أعرف أنها سوف تقتل
لأن عـينيها كانـتـا صافيـتـيـن كنهرين من الزمرد
وشعرها كان طويلا كموال بغدادي
فأعصاب هذا الوطن، لا تـتحمل كثافة الـلون الأخضر

ولا تتحمل رؤية لون شجرة نخيل
تتجمع في عيني بلـقيس
..

-6-

كنت أعرف أنها سوف تقتل .
فكلنا ـ دون استثناءٍ ـ موضوعون على قائمة الطعام في هذا الوطن الذي احترف أكل مواطنيه
والغريب .. أنهم يطالبوننا قبل أن يأكلونا ..
أن نغني النشيد الوطنيّ

ونأخذ التحية العسكرية
لرئيس المائدة وللغارسونات الذين يحيطون به
..

أيُّ نشيدٍ وطنيٍّ ؟، أي وطن ؟
حين تكون جثة المواطن العربي
مدفونة في مكان ما

بين معدة الحاكم العربي
وبين مصرانه الغليظ  ..

-7-

كنت أعرف انها سوف تقتل ..
فقد كانت مساحة كبرياءها
أكبر من مساحة شبه جزيرة العرب
وكانت حضارتها لا تسمح لها أن تعيش في عصر الإنحطاط
..
وكان تركيبها الضوئي ..
لا يسمح لها أن تعيش في العتمة ..

 -8-

كانت تعتقد من شدة عنفوانها أن الكرة الأرضية صغيرة عليها .. ولهذا حَـزَمت حقائبها،
وانسحبت على أطراف أصابعها، دون أن تـُـخبر أحدا ..

 -9-

لم تكن خائفة أن يقـتـلها الوطن
ولكنها كانت خائفة على الوطن أن يقتل نفسه
..

 -10-

كسحابة حبلى بالشعر  ..
نَـقــَّطـَت فـوق دفاتري
نبيذا .. وعسلا .. وعصافير..
وياقـوتا أحمر ..
ونقطت فـوق مشاعري
قلوعا .. وطيورا بحرية

وأقمار ياسمين .

بعد رحيلها،
بدأت عصورُ العطش
وانتهى زمن الماء ..

-11-

كان حبها العراقي
له طعم الورد .. وطعم الجمر ..
وكان إذا فاض في موسم الربيـع
كسر جميع السدود
..
وكسرني عشرين ألـف قطعه..

-12-

أسست معها في 5 آذار 1962
أول مدرسة للعشق في بغداد
وعندما سقطت بلقيس في 15/12/1981
استقال المعلمون والمعلمات

وهرب التلاميذ
وتأجلت دراسة الحب ..
إلى أجـلٍ غير مسمى ..

 -13-

قبل أن يتركني شعرها الذهبي ويسافـر ..
لم أكن أعرف أبدا
أن من بعض هوايات العصافـير ..
تجميع سبائك الذهب ..

 14-

بعد رحيل بلقيس
لن يكبر الشجر
ولن يستدير القمر
ولن يشتعل الماء..

 -15-

لأن الشعب العربي كان يتمنى أن يكون حُـرا كشعر بلقيس
وغير معتقل بالدبابيس
والزنزانات .. والأسلاك الشائكة
..
كشعر بلقيس
فقد أمَـرَ السلطان ـ نصره الله على أعدائه ـ
ـ وزاد من عدد مَـحظيّــاتِه ونسائه ـ
بإشعال النار في حقول الحنطة
وقطع رأس كل سنبلةٍ تـتكلم مع سنبلة أخرى
والتخلص من شعر بلقيس الجامح كحصان أشقر
..
لأنه يُـعَـلِّـمُ الناس الطموح
ويحرضهم على الحرية

-16-

كنت دائما أحس أنها ذاهبة
وكان في عينيها دائما

قـلوعٌ تستعـدّ للرحيل ..
وطيارات جاثمة على أهدابها
تستعـد للإقلاع
وفي حقيبة يدها ـ منذ تزوجتها ـ
كان هناك جواز سفــرٍ
وتذكرة طيران وتأشيرات دخول إلى بلادٍ لم تزرها

وعندما كنت أسألها:
ولماذا تضعين كل هذه الأوراق في حقيبة يدك؟
كانت تجيب:
لأنني على موعـدٍ مع قـوس قزح ..

-17-

 بعدما سلموني حقيبة يدها
التي عثروا عليها تحت الأنقاض ورأيت جواز السفر
وتذكرة الطائرة
وتأشيرات الدخول .
عرفت أني لم أتزوج بلقيس الراوي
وإنما تزوجت قوس قزح ..

 -18-

في الحفلات العامة
كانت تـتحاشى أن تـقـف معي .
أو تـتصور معي
أو تقول للناس : إنها زوجة الشاعر.

 أنا الذي كنت أبحث عنها هنا .. وهناك
وأطلب من المصورين أن يصوروني معها
حتى أدخل التاريخ ..

 -19-

عندما كانت تحضر أمسياتي الشعرية
كانت هي التي تسرق الأضواء

وأنا الذي أبقى في الظل
 
لم تكن تطلب رضى الشعر
كان الشعر هو الذي يطلب رضاها..

 عندما تموت امرأة جميلة
تـفـقـد الكرة الأرضية توازنها
ويعلن القمر الحداد لمئة عام
ويصبح الشِـعر عاطلا عن العمل ..

-21-

لم تكن تعترف بأوساط الحلول
حضورها كان استثنائيا

وحديثها كان استثنائيا
وشعرها الذي كان يسافر في كل الدنيا
كان حادثا اسـتـثـنائيا .
لذلك
كان موتها اسـتـثـنائيا مثلها ..

 -22-

تزوجتـني .. رغم أنف القبيلة
وسافرت معي .. رغم أنف الـقبيلة
وأعطـتـني زيـنـبَ وعُـمَـرْ
رغم أنـف الـقبيلة ..

وعندما كنت أسألها : لماذا ؟
كانت تأخذني كالطفل إلى صدرها وتـتمتم :
"
لأنك قبـيلتي .."

 -23-

كانت خرافية الألوان .. كفراشة
ورشيقة الطيران .. كفراشة

وقصيرة العمر .. كفراشة..

وعندما أحرقوها في يوم 15 ديسمبر 1981
قالت إحصائيات الأمم المتحدة
إننا القبيلة الوحيدة في العالم
التي تأكل الفَـرَاشْ
..

-24-

بلقيس الراوي
بلقيس الراوي
بلقيس الراوي

كنتُ أحِبّ إيقاع اسمها
وأتمسك برنينه ..

 وكنت أخاف أن اُلصِـقَ به كـُـنيَـتي
حتى لا أعكر ماء البحيرة
واُشوهَ روعة السمـفـونـية ..

 -25-

 ما كان لهذه المرأةِ أن تعيش أكثر
ولا كانت تـتمنى أن تعيش أكثر
فهي من فصيلة الشموع والقناديل

وهي كاللحظة الشعرية
لا بـدّ لها أن تـنـفجر قبل آخر السطر...

أعلى