ترصيع بالقصائد
|
|||
|
العائلة
الحبأنا من أسرة تمتهن العشق. والحب يولد مع أطفال الأسرة، كما يولد السكر في التفاحة. في الحادية عشرة من عمرنا نصبح عاشقين، وفي الثانية عشرة نسأم… وفي الثالثة عشرة نعشق من جديد. وفي الخامسة عشرة من العمر يصبح الطفل في أسرتنا شيخا.. وصاحب طريقة في العشق.. جدي كان هكذا.. وأبي كان هكذا.. واخوتي كلهم يسقطون في أول عينين كبيرتين يرونهما… يسقطون بسهولة… ويخرجون من الماء بسهولة… كل أفراد الأسرة يحبون حتى الذبح… وفي تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق… الشهيدة هي أختي الكبرى وصال. قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير… لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها… صورة أختي وهي تموت من أجل الحب… محفورة في لحمي. لا أزال أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت… كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية… وأروع من كليوباترا المصرية… حين مشيت في جنازة أختي… وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي… وحين زرعوا أختي في التراب… وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر… وإنما وجدنا في مكانه وردة… هل كان موت أختي في سبيل الحب أحد العوامل النفيسة التي جعلتني أتوفر لشعر الحب بكل طاقاتي وأهبه أجمل كلماتي ؟ هل كانت كتاباتي عن الحب، تعويضا لما حرمت منه أختي، وانتقاما لها من مجتمع يرفض الحب، ويطارده بالفؤوس والبنادق ؟ إنني لا أؤكد هذا العامل النفسي، ولا أنفيه. ولكني متأكد أن مصرع أختي العاشقة، كسر شيئا في داخلي… وترك على سطح بحيرة طفولتي أكثر من دائرة… وأكثر من إشارة استفهام. قلت أنني أنتمي لأسرة على استعداد دائم للحب. أسرة لديها ( حساسية ) مفرطة للوقوع في الحب. وإذا كانت حساسيات بعض الناس، منشؤها الألوان، أو الروائح، أو الغبار، أو تغير الفصول، فحساسية العائلة منشؤها القلب… كلنا نعاني من هذه الحساسية المفرطة أمام أشياء الجمال… كان أبي إذا مر به قوام امرأة فارعة، ينتفض كالعصفور، وينكسر كلوح من الزجاج… كانت قراءة رسالة، أو بكاء طفل، أو ضحكة امرأة، تدمره تدميرا كاملا… كان جبارا أمام الأحداث الجسام، ولكنه أمام وجه حسن التكوين، يتحول إلى كوم رماد… عيناه الزرقاوان كانتا صافيتين كمياه بحيرة سويسرية، وقامته مستقيمة كرمح محارب روماني، وقلبه كان إناء من الكريستال يتسع للدنيا كلها… كانت ثروته التي يفاخر بها، حب الناس. لم يكن يريد أكثر. ويوم مات خرجت دمشق كلها تحمله على ذراعيها… وترد له بعض ما أعطاها من حب… أما أمي فكانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب. كانت تعتبرني ولدها المفضل، وتخصني دون سائر اخوتي بالطيبات، وتلبي مطالبي الطفولية بلا شكوى ولا تذمر… ولقد كبرت، وظللت في عينيها دائما طفلها الضعيف القاصر. ظلت ترضعني حتى سن السابعة، وتطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة، وسافرت بعد ذلك إلى جميع قارات الدنيا، وظلت مشغولة البال على طعامي وشرابي ونظافة سريري. وتتسائل كلما جلست الأسرة على مائدة الطعام في دمشق : " ترى هل يجد ( الولد) في بلاد الغربة من يطعمه ؟… " والولد هو أنا بالطبع… ويا طالما طارت طرود الأطعمة الدمشقية، إلى السفارات التي كنت أعمل بها… لأن أمي لم تكن تصدق أن هناك شيئا يؤكل خارج مدينة دمشق. أما على الصعيد الفكري فلم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء. فلقد كانت مشغولة في عبادتها، وصومها وسجادة صلاتها. تسعى إلى المقابر في المواسم، وتقدم النذور للأولياء، وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفا من الشياطين، وتعلق أحجار الفيروز الأزرق في رقبة كل واحد منا، خوفا عليه من عيون الحاسدين. بين تفكير أبي الثائر، وتفكير أمي السلفي، نشأت أنا على أرض من النار والماء. كانت أمي ماء.. وأبي نارا.. وكنت بطبيعة تركيبي أفضل نار أبي على ماء أمي.. لم يكن أبي متدينا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. كان يصوم خوفا من أمي، ويصلي الجمعة في مسجد الحي –في بعض المناسبات- خوفا على سمعته الشعبية. كان الدين عنده سلوكا وتعاملا وخلقا. وشهد الله أنه كان على خلق عظيم. دائما كان في ماله حق للسائل والمحروم. ودائما كان في قلبه مكان للمعذبين في الأرض. والرغيف في منزلنا كان دائما نصفين.. نصفه الأول لغيرنا.. والنصف الثاني لنا.. لم يكن أبي يفصل الدين عن إطاره الجمالي. لذلك كان يقضي الساعات منصتا بخشوع واستغراق إلى صوت المقرئ العظيم الشيخ محمد رفعت. كان يعتبر صوته نافذة مفتوحة على نور الله.. وواحة من واحات الإيمان.. ولست أنسى أبدا ذلك اليوم الذي هدد فيه ببارودة صيد مؤذنا قبيح الصوت، جاؤوا به إلى المسجد اللصيق ببيتنا، لأن صوته –برأي أبي- كان مؤامرة على المسلمين والإسلام. واختفى المؤذن نهائيا.. ولم يعد يجرؤ على الصعود إلى المئذنة.. كان تفكير أبي الثوري يعجبني.. وكنت أعتبره نموذجا رائعا للرجل الذي يرفض الأشياء المسلم بها، ويفكر بأسلوبه الخاص. بالإضافة إلى شبهي الكبير له بالملامح الخارجية، فقد كان شبهي له بالملامح النفسية أكبر. وإذا كان كل طفل يبحث خلال مرحلة طفولته عن فارس، ونموذج، وبطل.. فقد كان أبي فارسي وبطلي.. ومنه تعلمت سرقة النار..
أبي
أمات أبوك؟
خمس رسائل إلى أمي
صباحُ الخيرِ يا حلوه..
وطفتُ الهندَ، طفتُ السندَ، طفتُ العالمَ الأصفر
وتحملُ في حقيبتها..
وتكسوني إذا أعرى
أيا أمي..
أنا الولدُ الذي أبحر
فكيفَ.. فكيفَ يا أمي
صباحُ الخيرِ من مدريدَ
وماتَ أبي
سلاماتٌ..
مضى عامانِ.. يا أمي
مضى عامانِ يا أمي
أتى أيلولُ يا أماهُ..
أتى أيلولُ.. أينَ دمشقُ؟
وأينَ رحابُ منزلنا الكبيرِ..
دمشقُ، دمشقُ..
أم المعتز
عندما كانت بيروت تموت بين ذراعي " أمك ماتت "
لم أستوعب الكلمات في البداية
كل مدينة عربية هي أمي..
لذلك لا أدخل مدينة عربية إلا وتناديني: " يا ولدي "
يعرفونها في دمشق بإسم ( أم المعتز )
وعندما تصل إلى دمشق.. نسيت أن أقول لكم، إن بيت أمي كان معقلا للحركة الوطنية في الشام عام 1935. وفي باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير. ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي.. وبعد كل اجتماع شعبي، كانت أمي تحصي عدد ضحاياها من أصص الزرع التي تحطمت.. والشتول النادرة التي انقصفت.. وأعواد الزنبق التي انكسرت.. وعندما كانت تذهب إلى أبي شاكية له خسارتها الفادحة، كان يقول لها، رحمه الله، وهو يبتسم:
وتختجل أمي من سخرية أبي المبطنة، ولكنها في نفس الوقت، تشعر بهزة عنفوان، لأن بيتها صار بيت الوطنية.. ولأن أزهارها.. ماتت من أجل الحرية.. أمي.. لا تتعاطى العلاقات العامة، وليس لها صورة واحدة في أرشيف الصحافة. لاتذهب إلى الكوكتيلات وهي تلف ابتسامتها بورقة سولوفان.. لا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات.. لا تشتري ملابسها من لندن وباريس، وترسل تعميما بذلك إلى من يهمه الأمر.. لا توزع صورها كطوابع البريد على محررات الصفحات الاجتماعية.. ولم يسبق أن استقبلت مندوبة أي مجلة نسائية، وحدثتها عن حبها الأول.. وموعدها الأول.. ورجلها الأول.. فأمي ( دقة قديمة ).. ولا تفهم كيف يكون للمرأة حب أول.. وثان.. وثالث.. وخامس عشر.. أمي تؤمن برب واحد.. وحبيب واحد.. وحب واحد..
قهوة أمي مشهورة..
وزارة زراعة كانت هذه المرأة..
بموت أمي..
كل النساء اللواتي عرفتهن..
أمي متفشية في لغتي..
كلما سألوها عن شعري، كانت تجيب:
أمي
رحمة الله على أمي ..
ثم .. لما رحلت
شقيقتي الكُبرى
يروِّعُني ..
هي الأخرى
تعاني عقدةً سوادء
قطارُ الحُسنِ مرَّ بها
ولم يترك من النهدينِ
لقد بدأت سفينتها
أراقبها .. وقد جلستْ
تصفعُهُ .. وتخربُهُ
تلوبُ .. تلوبُ .. في الرُدُهاتِ ..
وتقبعُ في محارتها
إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني
مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات..
وألثم قمصانك العاطرات..
لو كان للموت طفل، لأدرك ما هو موت البنين
كان ولدي .. فصار ولدكمكان ولدي .. فصار ولدكم .. في العاشر من شهر آب، مات ابني توفيق في لندن. توقف قلبه عن العمل، كما يتوقف قلب طائر النورس عن الضرب، وهو على بعد خطوتين من الشمس .. كان توفيق أميراً دمشقياً جميلاً .. كان طويلا كالزرافة، وشفافاً كالدمعة، وعالي الرأس كصواري المراكب. وكانت تتبعه إذا مشى، أزهار اللوتس، وشقائق النعمان، وغزلان الصحراء. هل الموت رجل، أم هو امرأة؟ لم أكن أناقش جنس الموت من قبل. ولكن بعد أن ذهب توفيق، بكل وسامته، وملاحته، وصورته اليوسفيّة، تأكدت أن الموت امرأة .. ربطت خصلات شعره الأشقر بمنديلها الحريري .. وخطفته إلى بيتها قبل أن تخطفه واحدة من بنات الأرض. فيا سيدتي التي تخبئين ولدي في غرفة نومك التي ستائرها غمام، وشراشفها غمام، ومخداتها غمام. لا اعتراض لي على زواج توفيق منك .. فأنا أب عصري أحترم العشق .. وأقف مع العشاق في جميع معاركهم، ولكن من حقي – كأب – أن أعقد ربطة عنق توفيق في ليلة عرسه .. إنني أنحني أمام رهافة ذوقك، وروعة اختيارك، يا من تستحمين الآن مع ولدي في مياه السحب البنفسجية .. وتقطفين له الفاكهة من بساتين الله .. ليس في نيتي أن أذهب إلى المحاكم، وأقيم عليك الدعوى بتهمة اختطاف طالب في السنة الثالثة من كلية الطب. إنني أعرف سلفاً أن دعواي مردودة، وأن جميع القضاة في العالم – إذا رأوا صورة توفيق معك – حكموا لك بالبراءة .. وحكموا عليّ بالصبر .. إنني أعرب سلفاً إنك لن تعيديه إليّ .. من ذا الذي يختطف ملكاً خرافي الملامح مثل توفيق، ويرضى أن يعيده إلى العرش؟ كنت أتصور أن موت ابني هو قضية خصوصية بينـي وبينه .. لكن الذي حدث كذّب جميع تصوراتي. فما أن خرج توفيق من بيتي حتى انفتحت أمامه أبواب جميع البيوت في العالم العربي. وما أن ترك توفيق منـزل الأبوة، حتى صار لــه آلاف الآباء والأمهات في كل مكان من هذا الوطن العظيم. في دمشق أعطوه سريراً، وفي لبنان كتبوه على أكواز الصنوبر ودفاتر الثلج، وفي مصر أهدوه أغلى ما في خان الخليلي من مصاحف، وفي بغداد أطعموه المنْ والسلوى، وفي السعودية لفّوه بعباءة فيها شيء من أنفاس الرسول، وفي السودان قدموا له عروساً بلون النحاس وخشب الأبنوس، وفي الأردن وضعوا حول عنقه طوقاً من ياسمين أريحا، وفي الكويت والبحرين أهداه صيادو اللؤلؤ أكبر لؤلؤة وجدوها في أعمال البحر. آه .. ما أروع الموت بين العرب .. ومع العرب .. آه ما أروع الانتماء إلى القبيلة! إن موت توفيق أعادني بدوياً مغرقاً في بداوته، وردّني مرة أخرى إلى بني هاشم، وبني تغلب، وبني مخزوم، وبني تميم، وبني شيبان، وإلى كل أبناء العمومة والخؤولة الذين يقتسمون معك حياتك، ويقتسمون موتك .. أما هناك .. أما في لندان .. فإن الموت إعلان مدفوع الأجرة في جريدة "التايمز"، والميت زجاجة حليب فارغة مرمية في الشوارع الخلفية. ممرضتك الإسبانية في السان جورج هوسبيتال في لندن تبكي بطريقتها الأندلسية .. ونحن نبكي عليك بطريقتنا العربية .. والانكليز يتفرجون على دموعنا كما يتفرجون على نوافير الماء في البيكاديللي سيركيس .. أكان لا بد لهذه الإسبانية أن تجيء إلى لندن لتزرع أول زهرة حزن في أواني السان جورج هوسبيتال؟ أكان لا بد لها أن تُقنع الإنكليز .. أن الإنسان هو حيوان يبكي؟ يا ليتكم حضرتم عرس توفيق في دمشق. كل المآذن الدمشقية رفعت أعناقها لترى توفيق .. كل حمائم الجامع الأموي فرشت تحت رأسه أجنحتها البيضاء .. كل أشجار الورد البلدي في غوطة الشام، تركت بساتينها وركضت حافية لتعانقه .. كل العصافير التي من عمر توفيق، والتي ولدت معه، وكبرت معه، وذهبت إلى المدرسة معه .. رافقت طائرته وهي تنـزل .. تنـزل .. تنـزل كالدمعة على خدّ دمشق .. كنت كلما سألته عن قلبه، أخرج قلماً أحمر .. وورقة .. ورسم لي قلبه بشكل وردة جورية.
كان يشرح لي علته بعقلية الطبيب .. المكاتيب التي أرسلها توفيق من هناك .. وألصق عليها طوابع تمثل مشاهد من الجنة .. تؤكد لي أنه بخير ..
كل ما حدث، أنه غيّر محل إقامته ..
فيا من جعلتم موت ولدي موتاً عربياً .. أرجو أن تعتنوا بهذا الأمير الدمشقي الجميل الذي كان طويلاً كالزرافة، وعالي الرأس كصواري المراكب .. وأن تشتروا له أقلامًا ملونة .. فقد كان يحب الرسم ..
عن موت البجع والأطفال ..تعرفت هذا الصيف على الموت بصورة شخصية .. قابلته وجهاً لوجه في قرية (لوتون) في شمال بريطانيا، ورأيت تقاطيع وجهه بالتفصيل .. كان يلبس معطفاً داكناً، ويتنقل بعربته في حقول الريف البريطاني، ليجمع الأزهار النادرة، ويصطاد الأسماك النادرة، ويدعو الأطفال إلى نزهة صباحية معه في غابات المنطقة، وعلى ضفاف بحيراتها. وكان جميع الأطفال يداعبون حصان عربته الرمادي، ويتبعونه بلا تردد .. وتوفيق كان من جملة الأطفال الذين ركبوا العربة، واستجابوا لنداء الغابات، وأصوات الجنادب الليلية، واغراء بحيرات منطقة Lake District حيث ينام الشاعر الإنكليزي العظيم ووردثورث على سرير من المطر الأزرق .. ويتغطى بشراشف الريح والثلج .. لماذا يحب الأطفال ركوب عربة الموت؟ لماذا يتعلقون بمعطف الحوذي، ويعجبون بحصانة ذي العنق الطويل، والحوافر الذهبية؟ لماذا يفضَّل الأطفال أن يلعبوا في حدائق الله .. على أن يلعبوا في حدائقنا؟ لماذا يحبون الألعاب السماوية، ويفضلون القطارات التي تتجه إلى المجهول .. على القطارات التي تتجه إلى المعلوم؟ لماذا يمد الأطفال أصابعهم – كراقصات الباليه – إلى العوالم الضوئية .. ونحن نمد أصابعنا إلى المستنقعات الأرضية؟ لماذا يتصرف الأطفال على طريقة الأنبياء .. والصوفيين .. ونتصرف نحن على طريقة السماسرة والملاكين؟ لماذا يسعد الأطفال بحضور الموت. ونشقى به؟ لماذا يتناولونه كأنه قطعة حلوى .. ونتناوله نحن كأنه زجاجة ديمول؟ إن رحيل توفيق المفاجئ، أكد لي حقيقة لم أكن أعرفها وهي أن الصغار أشجع منا وأكثر منا قدرة على فهم طبيعة هذه الرحلة التي يسمونها الموت .. إنهم يستقبلون الموت بحدسهم، ويدركونه إدراكا ميتافيزيكياً وفلسفياً نعجز نحن عن الوصول إلى مستواه .. قبل أن يموت توفيق بأيام، قال لأخته هدباء التي سافرت معنا إلى لندن: أتعرفين يا هدباء ماذا يخطر ببالي أن أفعل؟ إنني سآتي بسيارتي من القاهرة، وأبيعها في لندن، وأعيش الحياة طولاً وعرضاً .. وعندما قالت له هدباء: وإذا انتهت فلوس السيارة فماذا ستفعل؟ أجابها على الفور: لا تخافي .. سأموت أنا والسيارة معاً .. وذات يوم، كنت أتمشى مع توفيق في اكسفورد ستريت، ورأينا في إحدى الواجهات قميصا أزرق مخططاً من النوع الذي يعجبه، فقلت له: ما رأيك أن نشتريه؟ قال: ولماذا الاستعجال؟ ان القميص سيبقى .. ولكن هل سأبقى أنا؟ والحقيقة، إن توفيق كان يخطط للرحلة، بسلوكه وكلامه، ولكنه كان يحتفظ بسره في داخله .. كان يخاف أن يحرجنا إذا أخبرنا عن نيته في الرحيل، لذلك جمع أوراقه وثيابه بصمت، وذهب إلى الريف البريطاني، ليركب العربة التي كانت تنتظره .. وليموت بنفس الطريقة الشعرية التي مات بها الشاعر ووردثورث .. إن موت الأطفال، مثل موت النجوم، ومثل موت البجع الأبيض، ومثل موت الأسماك الملونة في أوانيها البللورية .. يخلع النفس، ويطفئ قرص الشمس .. وإذا كان حراما أن يموت البجع النهري، ويتناثر ريشه الأبيض .. بهذه الصورة اللامعقولة .. وإذا كان موت الأسماك الصغيرة هو مأساة لا يحتملها البحر، فإن الإيمان بمن خلق البجع، والسمك، والأطفال، يبقي حبة الفاليوم الوحيدة التي نلجأ اليها لقهر مواجعنا .. وما دام عقلنا – بكل عجزه ومحدوديته – لا يستطيع أن يفسر موت الورد، وموت الأطفال، وما دام الطب – بكل غروره وادعاءاته، وأشعته ومختبراته – لا يستطيع أن يقول لنا لماذا يموت فتى في الثانية والعشرين .. وتعيش السلحفاة النهرية ألفاً ومائتي عام .. وما دام الأطباء، يقفون كالمجاذيب، أمام بطن امرأة حامل .. ولا يستطيعون أن يجزموا إذا كان الذي يتحرك في أحشائها هو طفل، أو عصفور، أو نجمة .. وما دامت كل قلوب البلاستيك التي زرعها الدكتور برنارد وفريقه الطبي، ليست سوى عجلات احتياطية .. ركبوها على سيارات مستهلكة .. وما دام فن جراحة القلب، كالفن الإسكافي، يرقّع جلد الحذاء .. ولكنه لا يعيده جديداً .. وما دام نهر الموت يجرفنا هذا الجرف الجماعي، ويقذفنا إلى الضفة الثانية، دون أن يكون لدينا الوقت للرفض أو الاحتجاج .. وما دمنا لسنا أكثر من دمى في مسرح العرائس .. تحركنا يد المخرج حيث تشاء .. ومتى تشاء .. فليس أمامنا سوى الاعتراف بمؤلف الرواية، ومخرجها وموزع أدوارها .. وإذا سألتموني عن اسم هذا المخرج الكبير .. قلت لكم: هو الله ..
هل احترق بنار الشعر ؟سامحوني إذا قدمت لكم للمرة الثالثة خبز الأحزان .. كان بودي أن أغيّر قائمة الطعام، فأقدم لكم فطائر محشوة بالفرح، وكافياراً من بحر قزوين، وسيجاراً مستورداً من هافانا .. كان بودي أن أغيّر موسيقى باخ، وأغيّر هذا الجو الرمادي الذي يلف غرفة الطعام .. ولكن من أين أشتري خبز الفرح؟ إن كل مخابز بيروت لا تبيع إلا خبز الأحزان .. أتناول حبة فاليوم، وأحاول أن أنام .. أحاول أن ألغي بطريقة كيميائية حواسي الخمس .. أحاول أن أختم بالشمع الأحمر أبواب ذاكرتي .. لأمنع عصافير الماضي من مهاجمتي بمناقيرها الشرسة .. أحاول أن أنساه بطريقة كيميائية .. ولكنه كان نخلة عمري .. فكيف يمكن لحبة الفاليوم أن تقطع شجر النخل؟ .. يوصونني بالليبريوم .. كذبة جديدة موضوعة في زجاجة .. اشتريتها .. وأحاول أن أرشو بها ذاكرتي .. عشرون حبة .. كلما أخرجت واحدة منها، خرج لي توفيق كما تخرج اللؤلؤة من محارتها .. ولكنه كان خاتم الذهب في إصبعي، فكيف يمكن لحبة الليبريوم أن تسرق خاتمي الذهبي؟ كل طبيب أذهب إليه، يعاملني كشجرة .. يفحص جذعي، وأوراقي، وأغصاني .. ويتجاهل جهازي العصبي .. يتجاهل غدد الدمع المخبوءة في عيون الشجر .. يظن أن الأشجار لا تبكي .. ولا تتوجه لفراق عصافيرها المهاجرة في أول الخريف .. يظن أن الأشجار لا تتذكر أولادها .. يحاول أن يشرح لي أن الطب الحديث يعتبر الغدد الدمعية كالزوائد الدودية، لا قيمة لها في جسد الإنسان .. يا سيدي الطبيـب ! هل يمكن أن تشرح لي إذن، كيف سينـزل المطر، وينبت العُشب، وتمتلئ بحار العالم .. هل يمكن أن تقول لي – إذا صارت مني دموعي – كيف سأكتب الشعر؟ اكتشفت اليوم، إن الكتابة عنه هي أفضل طريقة لاستحضاره. كلما شرعت في الكتابة، أسمع صوت خطاه على الورقة، وحفيف ملابسه وهو يركض بين الحروف، كما يركض أرنب بين سنابل القمح.. يتسلق على (الألف) .. ويجلس على (اللام) .. ويستلقي على (السين) .. وينام حين ينعس في داخل (العين) .. لن ألجأ إلى الوسائل القديمة لاستحضاره، كإحراق البخور، والصندل، واستخارة فناجين القهوة، واللجوء إلى وسيط .. فما دام توفيق موجوداً في حروف الأبجدية .. وما دمت أستطيع أن أراه وأن أسمعه .. كلما فتحت غطاء القلم .. فسوف أواصل الكتابة .. أعطوني ساعته معد موته بثلاثة أيام .. كانت الساعة تضرب .. وقلبه كان متوقفا .. يا للمفارقة .. هل صارت أعمار الساعات، أطول من أعمارنا؟ هاجمني طوال هذا الأسبوع فكرة غريبة، ظلت تحوم داخل رأسي كطائر أسود .. الفكرة تتعلق بقوانين الوراثة الشعرية، وتأثير الشعر على التركيب العضوي لأولاد الشاعر. ولما كان الشعر هو مهنة الاحتراق والإحراق، وكان الشاعر هو ذلك الرجل الذي ينقل المواد المتفجرة تحت معطفه، ليلغّم بها العالم .. فلماذا نستبعد فرضية احتراق الأولاد بنار أبيهم؟ إن الشاعر، بمجرد احترافه الكتابة، فإنه يضع أولاده في منطقة الخطر .. إنني أكتب الشعر منذ خمس وعشرين سنة، وابنى توفيق مات في الثانية والعشرين، أي أن عمر شعري وعمر ابني متقاربان .. فهل أعتبر نفسي مسؤولاً عن هذا العطب غير الطبيعي في قلب ولدي؟ خمس وعشرون سنة، وأنا أحمل الزلازل في أعماقي، وأركض على أرض من الصفيح المشتعل، والبراكين المفتوحة الأفواه .. خمس وعشرون سنة، وأنا أبتلع الأسياخ المشتعلة على طريقة الهندوس، وأنزف كالعصفور على صدر حبيبتـي .. أو على صدر وطني .. خمس وعشرون سنة، وقلبـي يقفز كفهد استوائي بين الأدغال، وحرارة عواطفي لم تنـزل عن الأربعين خطاً واحداً .. كان قلبي يأخذ كل دقيقة آلاف الأشكال والأحجام .. كان مرة يأخذ حجم البرتقالة .. ومرة يأخذ حجم كوز الصنوبر، ومرة يأخذ حجم فلسطين .. كان الحب عندي عملية انتحارية، أذهب إليها .. ووصيتي في جيبـي .. وكان الشعر عندي معركة بالسلاح الأبيض لا أخرج منها إلا قاتلاً أو مقتولاً .. كان قلبي دائما مدينة مستنفرَة للحرب .. شبابيكها مطلية باللون الأزرق، وصفارات الإنذار فيها لا تتوقف عن الصراخ .. هذا هو قلبـي الذي أعطيته لتوفيق .. فهل تراني مسؤولاً عن هذا المحرك المعطوب الذي أورثته إياه؟ هل أنا مشترك بقتل ولدي؟ جاوبوني .. فإننـي أتعذب ..
عيد ميلاد جرح ..
اليوم يتذكر الجرح عيد ميلاده .. فيبكي .. الفرح عصفور من زجاج .. يرتفع عن الأرض عشرة أمتار .. ثم يقع على الأرض .. ويتهشم .. أما الحزن فهو هذه السنونوة السوداء التي تحمل أولادها، وتعشش على شواطئ العين .. ومدخل القلب .. وترفض أن ترحل ..
اليوم .. يخرج توفيق من أوراق الروزنامة .. بعد ثلاثمائة وخمس وستين ليلة .. نام
فيها خارج البيت .. أين ذهب توفيق؟ لماذا ترك سريره .. ودشداشته البيضاء .. وأقلامه .. وكُتب التشريح والبيولوجيا والكيمياء العضوية .. وسيارة الموريس الفيروزية التي كانت فرسه الأغلى .. وحبه الأول والأخير ..
أين اختفى توفيق؟
لماذا خذلنـي توفيق؟ مديد كرمح محارب روماني قديم .. وشامخ الرأس كغمامة .. وهادئ كوجه حكيم اغريقي .. عمره اثنتان وعشرون سنة .. وشعره أشقر كلون حقول القمح في تموز .. منذ العاشر من شهر آب 1973، وأخبار توفيق مقطوعة، وبريده لا يصل ..
بحثنا عنه في كل مكان ..
بعد اختفاء توفيق بأيام .. ومنذ ذلك التاريخ .. وأنا أهز أشجار القمر .. شجرة .. شجرة .. علّها تعيد لي ثياب حبيبـي .. اعتذر المحققون عن مواصلة التحقيق في قضية اختفاء توفيق .. قالوا: إن أجهزة استخباراتهم لا تستطيع اكتشاف العطر الضائع .. وأنه لم يعد أمامي من طرق المراجعة سوى (الشكوى لله ..) وها أنذا أشكو حزني إلى أعظم سلطة قضائية يرجع اليها الانسان .. وهي (الله) .. ومنذ رفعت أمري (إليه) .. بدأت أشعر بالراحة .. وأطمئن على أن توفيق يقيم في السماء .. في فندق من فنادق الدرجة الأولى .. وأنه منذ تركنا في السنة الماضية .. وهو يلعب في حدائق الله .. وينام في بساتين الله .. وينـزل في ضيافة الله .. سيارة (الموريس ميني) لا تزال تنتظر عودته .. تشتاق إليه .. كما تشتاق الفرس إلى فارسها .. وتقلق عليه، كما تقلق الأم على ولدها المسافر ..
آه .. كم كانت سيارته تشبهه ..
من قال ان الهياكل المعدنية للسيارات لا تعاني من العشق كما نعاني، ولا تذوب حنيناً
كما نذوب؟
يا حبيبـي توفيق !
لقد كانت هدباء مصممة على أن تحمل بك .. وكانت متأكدة أن الذي في بطنها .. هو أنت
..
شكرا لكم
فحبيبتي قتلت . . وصار بوسعكم
وقصيدتي اغتيلت
بلقيس
بلقيس
يا بلقيس، يا وجعي
هل يا ترى
يا نينوى الخضراء
قتلوك يا بلقيس
بلقيس
أين السموأل ؟
فقبائل أكلت قبائل
قسماً بعينيك اللتين إليهما
سأقول، يا قمري
فهل البطولة كذبة عربية ؟
بلقيس
سأقول في التحقيق
وأقول في التحقيق
وأقول
هذا هو التاريخ يا بلقيس
بلقيس
سبأ تفتش عن مليكتها
يا أعظم الملكات
بلقيس
أترى ظلمتك إذ نقلتك
بيروت تقتل كل يوم واحدا منا
والموت في فنجان قهوتنا
ها نحن .. يا بلقيس
هانحن ندخل في التوحش
حيث الكتابة رحلة
حيث اغتيال فراشة في حقلها
هل تعرفون حبيبتي بلقيس؟
كانت مزيجا رائعا
كان البنفسج بين عينيها
بلقيس
قتلوك في بيروت، مثل أي غزالة
بلقيس
بلقيس
نصغي إلى الأخبار . . والأخبار غامضة
بلقيس
هل تقرعين الباب بعد دقائق؟
بلقيس
حتى سيجارتك التي أشعلتها
بلقيس
بلقيس
يا زوجتي
بلقيس
ومن الذي نقل الفرات لبيتنا
بلقيس
بلقيس
كل غمامة تبكي عليك
بلقيس . .كيف رحلت صامتة
بلقيس
وتركتنا نحن الثلاثة ضائعين
أتراك ما فكرت بي ؟
بلقيس
يا من تحديت النجوم ترفعا
بلقيس
ضاقت بنا بيروت .. ضاق البحر
بلقيس : ما أنت التي تتكررين
بلقيس
فلكل دبوس صغير قصة
حتى ملاقط شعرك الذهبي
ويعرش الصوت العراقي الجميل
ومن المرايا تطلعين
بلقيس .. يا بلقيس
في كل ركن . . أنت حائمة كعصفور
فهناك كنت تدخنين
بلقيس
والولاعة الزرقاء
تتذكر الأمشاط ماضيا
بلقيس : صعب أن أهاجر من دمي
بلقيس : أيتها الأميرة
ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا
ها نحن نسأل يا حبيبة
بلقيس :
بلقيس :
فالخنجر العربي .. ليس يقيم فرقاً
بلقيس :
لن أقرأ التاريخ بعد اليوم
هانحن ندخل عصرنا الحجري
الحزن يا بلقيس
الآن . . أعرف مأزق الكلمات
و أنا الذي اخترع الرسائل
السيف يدخل لحم خاصرتي
كل الحضارة أنت يا بلقيس
بلقيس : أنت بشارتي الكبرى
أنت الكتابة قبلما كانت كتابة
بلقيس
سأقول في التحقيق
وأقول إني أعرف السياف قاتل زوجتي
وأقول إن عفافنا عهر
وأقول : إن نضالنا كذب
سأقول في التحقيق :
كل اللصوص من الخليج إلى المحيط
كل الكلاب موظفون
لا قمحة في الأرض
لا طفل يولد عندنا
لا سجن يفتح
لا رأس يقطع
سأقول في التحقيق :
سأقول في التحقيق :
سأقول كيف استنزفوا دمها
هل موت بلقيس
بلقيس
لو أنهم حملوا إلينا
لو أنهم حملوا إلينا
لشكرت من قتلوك يا بلقيس
سأقول في التحقيق :
وأقول :
وبقتل كل الأنبياء
حتى العيون الخضر
حتى الضفائر والخواتم
حتى النجوم تخاف من وطني
حتى الكواكب .. والمراكب .. والسحب
لما تناثر جسمك الضوئي
فكرت : هل قتل النساء هواية عربية
بلقيس
من يوم أن نحروك
ما زلت أدفع من دمي أعلى جزاء
هل يولد الشعراء من رحم الشقاء ؟
أم أنني وحدي الذي
بلقيس . .يا بلقيس
علمت من قتلوك أسرار الهوى
ماذا يقول الشعر يا بلقيس
ماذا يقول الشعر ؟
والعالم العربي
نحن الجريمة في تفوقها
أخذوك أيتها الحبيبة من يدي
بلقيس
إني لأعرف جيدا
نامي بحفظ الله أيتها الجميلة
ستظل أجيال من الأطفال
وسيعرف الأعراب يوماً قتلوا الرسولة ق ت ل و ا ا ل ر س و ل ة
بلقيس.. زعيمة للمعارضة!!
حين كتبت ( قصيدة بلقيس ) لم أتوقع أن يصبح جرحي بحجم الخريطة العربية.. ولم أتوقع أن تصبح دموعي بمساحة جميع البحار والأنهار في الوطن العربي. ثم لم أتوقع أن ُيسقط الجمهور العربي احتجاجه، وقرفه، وغضبه المكظوم على القصيدة، بحيث أصبحت ( فشة خلق ) لكل من يريد أن يتكلم ولا يستطيع الكلام.. ويتمنى أن يبكي ولا يستطيع البكاء.. لقد خطف الشعب العربي القصيدة من يدي.. كما خطف نعش جمال عبد الناصر في أيلول ( سبتمبر ) 1970 من يد السلطة.. ودفنه في أهداب عينيه.. وكان عبد الناصر سعيدا بأن يدفن في مقبرة مصنوعة من أهداب الشعب..
لم يبق بيت عربي لم يبك بلقيس.. هل كان العرب ياترى يبكون على بلقيس.. أم يبكون على أنفسهم؟ لم تكن ( قصيدة بلقيس ) نصا من النصوص الأدبية الكلاسيكية.. أو نموذجا من نماذج البلاغة، أو رواية تتلى حلقاتها في المقاهي الشعبية كل ليلة..
إنها باختصار ثأر الشعب العربي من خلفائه غير الراشدين.. ووثيقة احتجاج قدمتُها
بالنيابة عن 150 مليون عربي إلى من يهمهم الأمر.. أحيانا، لا يستطيع شعب من الشعوب أن يبكي بصورة علنية.. فتأتي قصيدة شعر.. لتتولى البكاء عنه.. وأحيانا، يتعذر على شعب من الشعوب، لألف سبب وسبب، أن يمارس حقه الطبيعي في الانتخاب والتصويت.. فتأتي قصيدة شعر لتقوم بعملية التصويت.. وأحيانا، تتوقف اللغة نهائيا عن ممارسة وظيفتها، وتموت الأفعال والأسماء والضمائر.. فتأتي قصيدة شعر، لتعيد الأمور إلى نصابها، وتعيد للكلام شرفه وعنفوانه.. وأحيانا، لا يستطيع شعب من الشعوب، لسباب بوليسية وفاشستية لا ضرورة لذكرها، أن يؤسس حزبا للمعارضة.. فتتولى قصيدة شعر تأسيس هذا الحزب بالوكالة عن الأكثرية الصامتة.. أو المرغمة على الصمت.. وهذا ما حدث على أرض الواقع، إذ تحولت بلقيس بعد نشر قصيدتها، من مجرد زوجة.. وأم لطفلين.. إلى حزب كبير للمعارضة لم تجرؤ السلطة على منعه.. أو الوقوف في وجهه..
كنت أعتقد أن حزن الشاعر هو حزنه وحده. وعرفت أن ما يسمى بالأدب الذاتي هو كذبة كبرى.. وأن أحزان الشاعر، كالأمطار الاستوائية، تنزل في كل مكان.. قد تكون خصوصية الحزن، أو خصوصية الفرح، ممكنة بالنسبة للآخرين.. أما الشاعر فلا يستطيع أن يحزن وحده.. أو يموت وحده.. إن العالم لا يسمح له بمثل هذا الترف.. كتبت ( قصيدة بلقيس ) بين غرفة العناية الفائقة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.. وبين الغرفة رقم 504 في جناح أمراض القلب.. لذلك أرجو ممن يمطروني بمواعظهم القومية والأخلاقية، وأنا أضع ابرة المصل في ذراعي، أن يريحوني من محفوظاتهم المدرسية عن الوطن والوطنية.. كما أرجو ممن وجدوها فرصة للتسلق على أكتاف حزني.. وأكتاف قصيدتي.. أن يبحثوا عن طريقة اخرى للعيش.. والله يرزق النمل حيث كان.. إلى النقاد الأفاضل الذين شتموني لأني خدشت حياء العرب.. واعتديت على عذريتهم.. واتهمتهم أمام المدعي العام بقتل زوجتي.. إلى الذين لا يزالون يصدقون أن العرب هم خير أمة أخرجت للناس.. وأنهم من جنس الملائكة.. فلا يدوسون على نملة.. ولا يذبحون خروفا.. أو إنسانا.. إلا بفتوى من المحكمة الشرعية.. أو المحكمة العسكرية.. إلى الذين لا يزالون ينامون على فراش التاريخ.. ويشخرون.. ويتاجرون ببطولات غيرهم.. ويربحون.. أقدم اعتذاري.. فقد ثبت لي من آخر التقارير التي وصلتني.. أن الذين قتلوا بلقيس هم من زيمبابوي.. كان عندي نبوءة، بأن القراء سيتعاطفون مع قصيدتي إنسانيا ووجدانيا وعاطفيا، لكنني لم أتوقع أن تتحول القصيدة إلى ( مانيفستو ) سياسي.. ومنشور سري ينتقل من يد إلى يد ككرة النار..
منذ أن صدرت القصيدة في " المستقبل " فقدنا السيطرة عليها، نبيل خوري.. وأنا.. إنقض الشعب العربي علينا.. ودون أن يستأذننا، أو يطلب موافقتنا وضع يده على 104 آلاف عدد من أعداد المجلة.. معتبرا القصيدة جزءا من الأملاك العامة كالماء والكهرباء والجسور والطرقات.. والمناجم.. بكلمة واحدة قام الشعب العربي ( بتأميم ) القصيدة.. وأدخلها في عداد ثروته القومية.. وبما أنني أؤمن بالطبيعة الاشتراكية للشعر.. فقد تركت الناس يأكلون قصيدتي.. لأن الناس إذا شبعوا شبعت.. وإذا جاعوا للحرية مت معهم جوعا.. هل تعرف بلقيس، وهي تتبختر كالغزالة في بساتين الجنة، أن دمها أخذ لون التاريخ.. وأن جسدها أخذ شكل تضاريس الأرض.. وأن عينيها صارتا وطنا لكل الخائفين ؟؟ ليس صحيحا أن الشعر فقد سلطانه القديم، وأضاع نفوذه وقدرته على التأثير بالمجتمع العربي.. وليس صحيحا ما يقال عن سقوط الشعر، في هذا العصر العربي الاستهلاكي.. عصر الصفقات، والمقاولات، والكومسيونات.. وليس صحيحا أن التلفزيون ومشتقاته.. والفيديو ومشتقاته.. ومطربات وراقصات النفط ومشتقاتهن.. قد ربحوا المعركة ضد الشعر، بالضربة القاضية.. ثم ليس صحيحا أن الشاعر فقد موقعه الإستراتيجي السابق، أيام كان عضوا بارزا في مراكز القوى، تقع عليه مسؤولية التخطيط السياسي، والثقافي، والإعلامي، والتوعية الشعبية. إن ( قصيدة بلقيس ) كانت رد الشعر، على كل الإشاعات الكاذبة التي تزعم أن الشعر قد مات وشبع موتا.. وأن القصيدة صارت امرأة عجوز لايقترب منها أحد.. ولايتزوجها أحد.. ولامكان لها في الحياة العربية. لقد أكدت ( قصيدة بلقيس ) أن دور الشعر في المجتمع العربي لايزال دورا خطيرا وفاعلا، وأن الأنسان العربي - رغم قلة الغذاء.. وقلة الهواء.. وقلة الحظ.. وقلة الحرية - لايزال يعتبر الشاعر بطلا من أبطال الأساطير.. لايقهر.. ولايهزم. ومهما كانت الإحباطات التي يمر بها الوطن العربي، ومهما كانت العتمة شاملة، وخيبات الأمل متعاقبة، فإن دم الأنسان العربي لايزال دما شعريا.. ولا أظن أن هذا الدم سيتحول ذات يوم إلى ماء.. أو إلى عرقسوس.. بشكل غريزي وتلقائي، التف الشعب العربي حول ( قصيدة بلقيس ).. نقلها.. وصورها.. وطبعها على الآلات الناسخة.. واشتراها في السوق السوداء.. وهربها تحت ثيابه.. أو في ذاكرته.. كالأفيون والكوكايين..
إنني لم أشتغل في حياتي بتهريب المخدرات..
أنا مسؤول عن قصيدتي كما بيكاسو مسؤول عن لوحته الشهيرة ( غيرينكا ). أما أن تتحول القصيدة بعد ذلك إلى مادة للحرب السياسية، والاعلامية، والايديولوجية بين الأنظمة العربية المتصارعة، وأن اصبح نارا في آتون الحرب المشتعلة بين الأوس والخزرج.. وبين الغساسنة والمناذرة.. وبين المهاجرين والأنصار.. وبين العرب العاربة والعرب المستعربة.. وبين أصحاب المذهب الشافعي وأصحاب المذهب الحنفي.. وبين المؤمنين بتعاليم محمد بن عبد الله.. والمؤمنين بتعاليم محمد ماوتسي تونغ.. وبين فرقة اخوان الصفاء.. والفرقة 16.. فهو خارج مسؤوليتي.. إنني أكتب القصيدة.. ولكني لا أعرف، بعد أن تكتمل أنوثتها، مع أي رجل ستذهب.. صحيح أن التربية البيتية لها حق، وأن البنت إذا نشأت في جو صالح ومحافظ، فلا يمكن أن تفلت.. أما القصيدة فهي ليبرالية ومجنونة وفلتانة بالوراثة.. ولايمكن لأحد أن يتعهدها أو يكفلها.. ولو بقرش واحد.. هل يكفل أحد امرأة مجنونة ؟ روى لي صديقي الروائي الكبير الطيب الصالح، أنه قرأ ( قصيدة بلقيس ) في إحدى السهرات الدبلوماسية في باريس، وأن الحاضرين والحاضرات غرقو بأمطار دموعهم، وتفجروا شجنا والتياعا وهم يتابعون أبيات القصيدة، وما أن انتهى الطيب الصالح من القراءة، حتى قالت إحدى الحاضرات والدموع تبلل أهدابها: " إذا كان ثمة رجل يقدر أن يرثيني بعد موتي بمثل هذا الكلام الجميل.. فإنني مستعدة أن أموت على الفور.. "
يا سيدتي:
25 وردة في شعر بلقيس-1-
كنت أعرف أنها سوف تُقتل
سقطت هي كالفراشة، تحت أنقاض الجاهلية -2-
كنت أعرف أنها سوف تُقتل
-3-
كنت أعرف أنها سوف تقتل
بين أرتال النساءِ المتشابهات -4-
كنت أعرف أنها سوف تقتل
هي مقام بغداديٌّ رائع
هي قصيدة عباسية
هي فصلٌ من ملحمة ( جلجامش )
هي أجمل ما كُـتِـبَ من شعر
-5-
كنت أعرف أنها سوف تقتل
-6-
كنت أعرف أنها سوف تقتل
.
أيُّ نشيدٍ وطنيٍّ ؟، أي وطن ؟
-7-
كنت أعرف انها سوف تقتل
.. -8-
كانت تعتقد من شدة عنفوانها أن الكرة الأرضية صغيرة عليها .. ولهذا حَـزَمت حقائبها، -9-
لم تكن خائفة أن يقـتـلها الوطن -10-
كسحابة حبلى بالشعر
..
بعد رحيلها، -11-
كان حبها العراقي -12-
أسست معها في 5 آذار 1962
-13-
قبل أن يتركني شعرها الذهبي ويسافـر
.. 14-
بعد رحيل بلقيس
-15-
لأن الشعب العربي كان يتمنى أن يكون حُـرا كشعر بلقيس
-16-
كنت دائما أحس أنها ذاهبة -17-
بعدما سلموني حقيبة يدها
-18-
في الحفلات العامة
أنا الذي كنت أبحث عنها هنا .. وهناك
-19-
عندما كانت تحضر أمسياتي الشعرية
عندما تموت امرأة جميلة
-21-
لم تكن تعترف بأوساط الحلول -22-
تزوجتـني .. رغم أنف القبيلة
وعندما كنت أسألها : لماذا ؟ -23-
كانت خرافية الألوان .. كفراشة
وعندما أحرقوها في يوم 15 ديسمبر 1981
-24-
بلقيس الراوي
كنتُ أحِبّ إيقاع اسمها
وكنت أخاف أن اُلصِـقَ به كـُـنيَـتي
-25-
ما كان لهذه المرأةِ أن تعيش أكثر
وهي كاللحظة الشعرية
أعلى |
||