ترصيع ٌبالقصائد
على السيرة الذاتية

 


عودة الى البداية

مدخل
 

   

مدخل

لستُ أدري، ماذا يقولُ الشاعر؟
وهوَ يمشي في غابةٍ من خناجر

أطلقوا نارَهمْ على المُتنبي ..
وأراقوا دماءَ مجنونِ عامرْ

 لو كتبنا يوماً رسالةَ حبٍ ..
شنقونا على بياضِ الدفاتر

 ما بوسع السيّاف قطعُ لساني ..
فالمدى أزرقٌ .. وعندي أظافر

هذه المختارات


ترصيع بالقصائد على السيرة الذاتية !

هل هذا ممكن ؟ وهل يستطيع شاعر على وجه الأرض أن يقرر بمثل هذه السهولة والرعونة، ما هي أحلى قصائده ليرصع بها سيرته الذاتية.

وإذا كانت القصائد التي اخترتها هي أحلى القصائد من وجهة نظري، فهل هي كذلك بالنسبة للآخرين ؟

إن ذوق الشاعر، على أهميته، يبقى ذوقه الخاص، وارتباطه الشخصي ببعض قصائده، والظروف التاريخية والنفسية والإنسانية التي كتب تحت تأثيرها  هذه  القصائد، تلعب دورا رئيسيا في لعبة الاختيار .

إن ورائي خمسون عاما من التجارب الشعرية، وأمامي اثنان وأربعون كتابا هي تذكرة ميلادي، وجواز سفري، وعمري كله .

فكيف أستطيع أن ألتقط من هذا البحر، حفنة صدف أقول عنها إنها البحر..

وكيف أسمح لنفسي أن ألتقط من الشمس حزمة أشعة وأدعي أنني سرقت النار؟..

إن كل عملية اختيار بحد ذاتها مرعبة. وعملية اختيار الشعر ممن كتبه هي ذروة الرعب..

وإذا كان لا يستحيل على الإنسان أن يختار أثوابه، وعطوره، وأثاث بيته، ولون ستائره، فمن المستحيل عليه أن يختار انفعالاته..

الشعر هو أرض الانفعال .

هو وطن الأشياء المنقلبة دائما على نفسها، والأشكال الهاربة من شكلها .

وعلى هذه الأرض الحبلى بالدهشة والمفاجآت، لا ثبات لشيء .ولا يقين لشيء..

فكيف يختار الشاعر حصانه بين ألوف الخيول المتسابقة على حدقتي عينيه ؟

الاختيار كان دائما يعذبني . والتمييز بين هذه القصيدة وتلك كان  دائما وجعي الأكبر .

وبالرغم من طول صحبتي للشعر، وسكناي معه وفيه فإنني كلما دعيت إلى أمسية شعرية أقف أمام أوراقي خائفا ومترددا كالطفل عشية الامتحان .

إن فكرة إصدار مختارات شعرية لي فكرة قديمة ولكنني كنت دائما أؤجلها وأخشاها كما يخشى المتهم قرار المحكمة .

إلا أن مواجهتي اليومية للجمهور ووقوفي أمامه فاعلا ومنفعلا وردود الفعل المختلفة التي كانت تواجَه بها قصائدي أكسبتني بعض الخبرة في معرفة القصائد ـ المفاتيح في شعري. وأعني بالقصائد ـ المفاتيح، تلك القصائد التي تركت وراءها أسئلة .. وحرائق .. ونار .. ودخانا .

واليوم وقد قررت أن أدخل قاعة المحاكمة أود أن أهمس في آذان المحلفين أن اختيار بضعة أشجار من غابة لا يمثل حقيقة الغابة، وأن قطف باقة زهر، ووضعها في آنية .. فيه ظلم كبير للبستان..
 

 نزار قباني

أعلى