ترصيع بالقصائد
|
|||
|
تقرير سري جدا من بلاد قمعستانلم يبق فيهم لا ابو بكر .. ولا عثمان جميعهم هياكل عظمية في متحف الزمان تساقط الفرسان عن سروجهم واعلنت دويلة الخصيان واعتقل المؤذنون في بيوتهم والغي الاذان.. جميعهم .. تضخمت اثدائهم واصبحوا نسوان جميعهم يأتيهم الحيض ومشغولون بالحمل وبالرضاعة.. جميعهم قد ذبحوا خيولهم وارتهنوا سيوفهم وقدموا نساءهم هدية لقائد الرومان ما كان يدعى ببلاد الشام يوما صار في الجغرافيا.. يدعى (يهودستان) الله .. يا زمان لم يبق في دفاتر التاريخ لا سيف ولا حصان جميعهم قد تركوا نعالهم وهربوا اموالهم وخلفوا وراءهم اطفالهم وانسحبوا إلى مقاهي الموت والنسيان جميعهم تخنثوا.. تكحلوا.. تعطروا.. تمايلوا اغصان خيزران حتى تظن خالدا .. سوزان ومريما .. مروان الله .. يا زمان.. جميعهم موتى .. ولم يبق سوى لبنان يلبس في كل صباح كفنا ويشعل الجنوب اصرارا وعنفوان جميعهم قد دخلوا جحورهم واستمتعوا بالمسك، والنساء، والريحان جميعهم مدجن، مروض، منافق، مزدوج .. جبان ووحده لبنان يصفع امريكا بلا هوادة ويشعل المياه والشطان في حين الف حاكم مؤمرك يأخذها بالصدر والاحضان هل ممكن ان يعقد الانسان صلحا دائما مع الهوان؟ الله .. يا زمان .. هل تعرفون من انا مواطن يسكن في دولة (قمعستان) وهذه الدولة ليست نكتة مصرية او صورة منقولة عن كتب البديع والبيان فأرض (قمعستان) جاء ذكرها في معجم البلدان .. وان من اهم صادراتها حقائبا جلدية مصنوعة من جسد الانسان الله .. يا زمان .. هل تطلبون نبذة صغيرة عن ارض (قمعستان) تلك التي تمتد من شمال افريقيا إلى بلاد نفطستان تلك التي تمتد من شواطئ القهر إلى شواطئ القتل إلى شواطئ السحل، إلى شواطئ الاحزان .. وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريان ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة ويكرهون الورق الابيض، والمداد، والاقلام بالوراثة واول البنود في دستورها: يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الانسان الله .. يا زمان .. هل تعرفون من أنا؟ مواطن يسكن في دولة (قمعستان) مواطن.. يحلم في يوم من الأيام أن يصبح في مرتبة الحيوان مواطن يخاف أن يجلس في المقهى .. لكي لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان مواطن يخاف أن يقرب زوجته قبل أن تراقب المباحث المكان مواطن أنا من شعب قمعستان أخاف أن ادخل أي مسجد كي لا يقال أنى رجل يمارس الأيمان كي لا يقول المخبر السري: أني كنت أتلو سورة الرحمن الله .. يا زمان .. هل تعرفون الآن ما دولة (قمعستان)؟ تلك التي ألفها .. لحنها .. أخرجها للشيطان هل تعرفون هذه الدويلة العجيبة؟ حيث دخول المرء للمرحاض يحتاج إلى قرار والشمس كي تطلع تحتاج إلى قرار والديك كي يصبيح يحتاج إلى قرار ورغبة الزوجين في الإنجاب تحتاج إلى قرار وشعر من احبها يمنعه الشرطي أن يطير في الريح بلا قرار ما اردأ الاحوال في دولة (قمعستان) حيث الذكور نسخة من النساء حيث النساء نسخة من الذكور حيث التراب يكره البذور وحيث كل طائر يخاف بقية الطيور وصاحب القرار يحتاج إلى قرار تلك هي الاحوال في دولة (قمعستان) الله .. يا زمان .. يا اصدقائي : انني مواطن يسكن مدينة ليس بها سكان ليس لها شوارع ليس لها ارصفة ليس لها نوافذ ليس لها جدران ليس بها جرائد غير التي تطبعها مطابع السلطان .. عنوانها؟ اخاف ان ابوح بالعنوان كل الذي اعرفه ان الذي يقود الحظ إلى مدينتي يرحمه الرحمن .. يا أصدقائي : ما هو الشعر إذا لم يعلن العصيان؟ وما هو الشعر إذا لم يسقط الطغاة .. والطغيان؟ وما هو الشعر إذا لم يحدث الزلزال في الزمان والمكان؟ وما هو الشعر إذا لم يخلع التاج الذي يلبسه كسرى انوشروان؟ من اجل هذا أعلن العصيان باسم الملايين التي تجهل حتى الآن ما هو النهار وما هو الفارق بين الغصن والعصفور وما هو الفارق بين الورد والمنثور وما هو الفارق بين النهد والرمانة وما هو الفارق بين البحر والزنزانة وما هو الفارق بين القمر الأخضر والقرنفلة وبين حد كلمة شجاعة، وبين خد المقصلة .. من اجل هذا أعلن العصيان باسم الملايين التي تساق نحو الذبح كالقطعان باسم الذين انتزعت أجفانهم واقتلعت أسنانهم وذوبوا في حامض الكبريت كالديدان باسم الذين ما لهم صوت .. ولا رأي .. ولا لسان .. سأعلن العصيان .. من اجل هذا أعلن العصيان باسم الجماهير التي تجلس كالأبقار تحت الشاشة الصغيرة باسم الجماهير التي يسقونها الولاء بالملاعق الكبيرة باسم الجماهير التي تركب كالبعير من مشرق الشمس إلى مغربها تركب كالبعير .. وما لها من الحقوق غير حق الماء والشعير وما لها من الطموح غير أن تأخذ للحلاق زوجة الأمير أو ابنة الأمير .. أو كلبة الأمير .. باسم الجماهير التي تضرع لله لكي يديم القائد العظيم وحزمة البرسيم .. يا أصدقاء الشعر: اني شجر النار، اني كاهن الأشواق والناطق الرسمي عن خمسين مليونا من العشاق على يدي ينام أهل الحب والحنين فمرة اجعلهم حمائما ومرة اجعلهم أشجار ياسمين يا أصدقائي .. إنني الجرح الذي يرفض دوما سلطة السكين .. يا أصدقائي الرائعين: أنا الشفاه للذين ما لهم شفاه أنا العيون للذين ما لهم عيون أنا كتاب البحر للذين ليس يقرؤون أنا الكتابات التي يحفرها الدمع على عنابر السجن أنا كهذا العصر، يا حبيبتي أواجه الجنون بالجنون واكسر الأشياء في طفولة وفي دمي، رائحة الثورة والليمون .. أنا كما عرفتموني دائما هوايتي أن اكسر القانون أنا كما عرفتموني دائما أكون بالشعر .. وإلا لا أريد أن أكون .. يا أصدقائي: انتم الشعر الحقيقي ولا يهم أن يضحك .. او يعبس .. أو أن يغضب السلطان انتم سلا طيني .. ومنكم استمد المجد، والقوة، والسلطان .. قصائدي ممنوعة .. في المدن التي تنام فوق الملح والحجارة قصائدي ممنوعة .. لأنها تحمل للإنسان عطر الحب، والحضارة قصائدي مرفوضة .. لأنها لكل بيت تحمل البشارة يا أصدقائي: أنى ما زلت بانتظاركم لنوقد الشرارة ..
التأشيرة
1
الجمهورالشعر عندي هو سفرٌ إلى الآخرين.. السفر إلى الآخرين هو مهنتي. ويوم أفقد جواز سفري، وحقائبي المليئة بالكلمات، سأتحوّل إلى شجرة لا تسافر.. وأموت.. هناك شعراء يسافرون داخل ذواتهم. هذا نوع من أنواع السفر. ولكن سفري مختلف، وسفني مختلفة، وخريطة طموحي مختلفة. إنني لا أرقص على أوراقي كدرويش خائب، ملتذا بطقطقة مسبحتي، ودوراني حول نفسي. أنا شاعر يريد أن يلعب لعبته في الهواء الطلق.. ومع بشر حقيقيين. إنني لا أتصور شاعرا يلعب مع نفسه، إلا إذا كان لا يعرف قواعد اللعبة، أو يخاف الاختلاط ببقية أولاد الحارة.. الشاعر صوت. ومن أبسط خصائص الصوت أن يترك صوتا، ويصطدم بحاجز إنساني. وبدون هذا الحاجز الإنساني يصبح الكلام مستحيلا، واللغة خشخشة أوراق يابسة في غابة لا يسكنها أحد.. الشعر يد.. والجمهور باب.. والشاعر الذي لا يتجه بشعره إلى أحد، يبقى نائما في الشارع.. شعراء كثيرون لا يزالون نائمين في الشارع لأنهم لا يحفظون التميمة التي تفتح مغارة (علي بابا). إذن فالشعر.. خطاب نكتبه للآخرين. خطاب نكتبه إلى جهة ما.. والمُرسَل إليه عنصر هام في كل كتابة، وليس هناك كتابة لا تخاطب أحدا.. وإلا تحولت إلى جرس يقرع في العدم. وأزمة الشاعر الحديث الأولى هي أنه أضاع عنوان الجمهور.. فالشاعر الحديث يقف في قارة، والناس يقفون في قارة.. وبينهما بحار من عُقَد التعالي.. والغرور.. وعدم الثقة.. وبدلا من أن تكون ثقافة الشاعر وسيلة للتفاهم والاقتراب.. أصبحت قلعة حجرية لا تفتح أبوابها للجمهور.. إن ثلاثة أرباع شعرائنا الحديثين يمارسون، عن قصد منهم أو عن غير قصد، إقطاعا فكريا وشعريا جعلهم منفيين خارج أسوار الذوق العام، وحوّلهم إلى كائنات خرافية تتكلم لغة أخرى. لماذا؟.. لماذا يعيد موزّع البريد قصائد شعرائنا إليهم؟. لأنهم نسوا عنوان الشعب. وهكذا بكل بساطة. وأنا بدون تردد، أتّهم عددا من شعرائنا، وأكثرهم ثوريون واشتراكيون وماركسيون، بممارسة إقطاع شعري على الشعب العربي، لا يختلف كثيرا عن الإقطاع الثقافي والفكري الذي كان يمارسه نبلاء القرون الوسطى.. انهم عاجزون عن الوصل والتواصل، وعاجزون عن تحويل الشعر إلى قماش شعبي يلبسه كل الناس. الجمهور طفل طيب القلب، كثير البراءة. وهو لكي يحب ويستأنس – لا بد له من فهم ما يقال له.. فالأطفال لا يمنحون حبهم، إلا لمن يفهمون طفولتهم، ويملأون أيديهم بهدايا غير منتظرة.. إن انقطاع الخيط بين شعراء الكلمات المتقاطعة والجمهور، ملأهم بمركّبات النقص، فراحوا يتهمون هذا الجمهور بالغباء، والسطحية، والأمية، والمراهقة، ويزعمون أن العصر متخلّف عن شعرهم، وأن عدم فهم القصيدة هو مقياس عظمتها.. وأن العلة ليست فيهم.. بل في الجمهور. ويقولون أيضا فيما يقولونه، أن قصائدهم ذات صيغة مستقبلية، وأنها إذا لم تأخذ مكانها الطبيعي الآن.. فسوف تأخذه بعد عشرات أو مئات السنين.. إن هذا المنطق هو منطق الثعلب الذي لا يستطيع أن يطال العنقود. فالشعر الذي لا يصلح لهذا العصر، لا يصلح لكل العصور، والقصيدة التي لا تستطيع أن تخاطب زمانها لا تستطيع أن تخاطب زمان غيرها.. ولأن المتنبي، كان في ضمير عصره، استطاع أن يسافر إلى كل العصور، ويشاركنا حتى اليوم طعامنا، وغرف نومنا، وأحاديثنا.. ولأن أبا نواس كان جزءا من حانات بغداد والبصرة أصبح جزءا من تاريخ السُكْر.. وتاريخ الكؤوس.. ولأن طاغور كان قطعة من روح الهند، صار قطعة من روح العالم.. ولأن لوركا ذُبح تحت شجرة زيتون، وهو يغني للحرية في إسبانيا.. ظل شعره محفورا على كل أشجار الزيتون في العالم.. أما الهاربون من عصرهم، ومن زمنهم بحثا عن أزمنة أخرى، وكواكب أخرى، وكائنات أخرى، فسوف يبقون دائما معلّقين في الفراغ، بدون جنسية معلومة. هذا الحب بيني وبين الجمهور صار صليبا ثقيلا على كتفي.. فكلما اتّسعت قاعدتي الشعرية.. زاد خصومي.. كلما امتلأت القاعات، وسُدّت الأبواب، وامتدّت الأوتوغرافات اليُ.. اشتدت المقاومة وكثر المقاومون.. كلما ارتفعت نسبة توزيع كتبي، وعدد قرّائي، أشعر أنني اقترفت ذنبا كبيرا لم يقترفه شاعر قبلي.. إذن فأنا أسكن بين أسنان التنين. ويبدو أن هذا هو مكاني الطبيعي. إذ لا يوجد شعر حقيقي خارج التحدي والمغامرة. والغريب أني كلما ضغطتْ أسنان التنين على لحمي، شعرت أني أكثر قوة وعافية، وكلما زاد نقادي شراسة، زاد التفاف الجماهير حولي. منطقيا، كان يجب أن أسقط. ولكنني لم أسقط. ومنطقيا كان يجب أن يتفرق الناس عني، ولكنهم لم يتفرقوا.. ومنطقيا كان يجب أن أغادر المسرح الشعري، ولكنني بعد ثلاثين عاما.. لا أزال واقفا.. واقفا.. واقفا.. المسألة لها ثلاثة احتمالات: (1) إما أن أكون خادعا. (2) وإما أن يكون الجمهور مخدوعا. (3) وإما أن يكون المهاجمون، كالجنود المرتزقة، يطلقون الرصاص دون أن تكون لهم قضية معينة.. سوى هواية القتل. أما الخداع فليست له طبيعة الاستمرار، والشعر هو الفن الوحيد الذي لا ينجح فيه الخداع. من أول بيت في القصيدة يتعرّى الشاعر تماما أمام الجمهور. ومن سابع المستحيلات أن يبقى شاعر ثلاثين عاما بغير ثياب أمام جمهوره. كذلك لا أستطيع أن أتصوّر جمهورا يظل ثلاثين عاما تحت تأثير الخداع، إلا إذا افترضنا أن هذا الجمهور هو جمهور من الحطب والحجارة.. هذه التساؤلات توصلنا إلى طرح سؤال آخر: ما هو المعيار العملي الذي نقيس به تأثير شاعر في وجدان عصره.. وبالتالي لماذا يُقبل شاعر ويُرفض آخر حين يقرآن شعرَهما في مكان واحد؟. أعتقد أن العلاقة بين الشاعر وجمهوره هي نفس العلاقة بين الوجه والمرآة.. وكما يبحث الوجه في المرآة عن أبعاده الحقيقية، تبحث المرآة بدورها عن وجه يرضي لها غرورها كمرآة.. وحين يكسر الشاعر مرآته.. يدخل وجهه منطقة التعتيم والكسوف. ويصبح كوكبا خارج مداره.. إن وظيفة الفن – منذ رحيل المغارة حتى عصر الإلكترون – هي الملامسة. فلكي يكون اللون لونا لا بد أن يلامس العيون، ولكي يكون اللحن لحنا لا بد أن يلامس الأذن.. ولكي يكتشف الصوت حجمه لا بد أن يلامس سطحا ما.. والقصيدة، لا تخرج عن هذا القانون. فهي مكتوبة أصلا لتصل إلى من كُتبت اليهم.. كما تتجه المراكب إلى مرافئها للتزود بالوقود.. وكل قصيدة لا تتجه إلى مرفأ ما تموت جوعا وعطشا. لقد أدرك الرجل البدائي هذه الحقيقة، لذلك حفر قصائده على الحجر.. وأواني الفخار.. وجلود الغزلان. وبكلمة ان سلطة الجمهور، كسلطة الله، قد تكون غامضة وغير مرئية.. ولكنها سلطة أكيدة وحقيقية تُدخل في رحمتها من تشاء، وتطرد من رحمتها من تشاء.. وليس الجمهور، مجموعة من الغرائز والنزوات والانفعالات، كما يزعم المنفيون عن جنة الناس، ولكنه (بوصلة) بمنتهى الذكاء والحساسية، تعرف أين أرض المطر.. وأين أرض السراب. إن تعاليم لينين وماوتسي تونغ، وجميع المفكرين والقادة الماركسيين، كانت تؤكد على هذا المعنى، وتطلب إلى الشعراء والكتّاب والفنانين، أن يذهبوا إلى الشعب.. ويشاركوه خبزه، وفرحه، وحزنه، وحبه، وأغانيه، وقصائده الشعبية، لأن الشعب هو البحر الكبير الذي تنبع جميع الفنون منه وتصب على سواحله.. ولقد كان البحر دائما صديقي.. على رماله الساخنة تمدَّدت، وبأصدافه الملونة لعبت، وعلى صوت أمواجه غفوت.. صوت البحر.. أنساني متاعب الرحلة، وهجمات القراصنة والأسماك المتوحشة.. صوت جمهوري علّمني التسامح والغفران.. علّمني أن الشعر موقف أخلاقي من كل الأشياء ومن كل الأحياء. انه طهارة من الداخل وطهارة من الخارج. ولا أقدر أن أفهم كيف يستطيع شاعر يختزن السواد في أعماقه أن يكتب على ورق أبيض.. لذلك لم أحاول في حياتي الأدبية أن أرد شتيمة شاتم أو هجوم مهاجم، لأنني أعتقد أن الشتيمة تعاقب نفسها.. كلما سمعت شاعرا يشتم شاعرا غمرني الأسى، وتساءلت: ترى ألا تتسع الأرض كلها لركض حصانين؟ أنا لا أتصوّر أن شاعرا يمكن أن يأخذ من سواه شيئا، فالدروب كثيرة، وميدان السبق مفتوح لكل الخيول المتسابقة. ولن تربح في النهاية سوى الموهبة.
أنا مع الإرهابنحن متهمون بالإرهاب إن نحن دافعـنا عن الوردة والمرأة والقصيدة العصماء وزُرقة السماء عن وطن لم يبق في أرجائه ماء ولا هواء لم تبق فيه خيمة أو ناقة أو قهوة سوداء !! مُتهمون نحن بالإرهاب إن نحن دافعنا بكل جرأة عن شعر بلقيس وعن شفاه ميسون وعند هند وعن دعد وعن لُبنى وعن رباب عن مطر الكُحلِ الذي ينزل كالوحي من الأهداب !! لن تجدوا في حوزتي قصيدةً سرية أو لغة سرية أو كتباً سرية أسجنها أسجلها في داخل الأبوابْ وليس عندي أبداً قصيدة واحدة تسير في الشارع وهي ترتدي الحجاب متهمون نحن بالإرهاب إذا كتبنا عن بقايا وطن مُخلَع مُفكك مهترئ أشلاؤه تناثرت أشلاء عن وطن يبحث عن عنوانه وأمةٍ ليس لها أسماء !! عن وطن لم يبق من أشعاره العظيمة الأولى سوى قصائد الخنساء !! عن وطن لم يبق في آفاقه حريةُ حمراء أو زرقاء أو صفراء عن وطن يمنعنا أن نشتري الجريدة أو نسمع الأنبياء عن وطن كل العصافير يه ممنوعة دوما من الغناء عن وطن كتابه تعودوا أن يكتبوا من شدة الرعب على الهواء !! عن وطن يمشي إلى مفاوضات السلم دونما كرامة ودونما حذاء !! رجاله بالوا على أنفسهم خوفا ً ولم يبق سوى النساء !! لقد تعودنا على هواننا ماذا من الإنسان يبقى حين يعتاد على الهوان ؟؟ أبحث عن دفاتر التاريخ عن أسامة بن مُـنقذ وعقبة بن نافع عن عمر عن حمزة عن خالد يزحف نحو الشام أبحث عن معتصم باللهِ حتى ينقذ النساء من وحشية السبي ومن ألسنة النيران !! أبحث عن رجال آخر الزمان فلا أرى في الليل إلا قططاً مذعورة تخشى على أرواحها من سلطة الفئران !! هل العمى القومي قد أصابنا ؟ أم نحن نشكو من عمى الألوان ؟؟ متهمون نحن بالإرهاب إذا رفضنا موتنا بجرافات إسرائيل تنكش في ترابنا تنكش في تاريخنا تنكش في إنجيلنا تنكش في قرآننا تنكش في في تراب أنبيائنا إن كان هذا ذنبنا ما أجمل الإرهاب متهمون نحن بالإرهاب إذا رفضنا محونا على ييد المغول واليهود والبرابرة إذا رمينا حجرا على زجاج مجلس الأمن الذي استولى عليه قيصر القياصرة !! متهمون نحن بالإرهاب إذا رفضنا أن نفاوض الذئب وأن نمد كفنا لعاهرة !! أميركا ضد ثقافات البشر وهي بلا ثقافة ضد حضارات الحضر أميركا بناية عملاقة ليس لها حيطان !! متهمون نحن بالإرهاب وإذا رمينا وردة للقدس للخليل أو لغزة والناصرة إذا حملنا الخبز والماء إلى طروادة المحاصرة متهمون نحن بالإرهاب إذا صوتنا ضد الشعوبيين من قادتنا وكل من قد غيروا سروجهم وانتقلوا من وحدويين إلى سماسرة !! إذا اقترفنا مهنة الثقافة إذا تمردنا على أوامر الخليفة العظيم والخلافة إذا قرأنا كتبا في الفقه والسياسة إذا ذكرنا ربنا تعإلى إذا تلونا ( سورة الفتح ) وأصغينا إلى خطبة يوم الجمعة فنحن ضالعون في الإرهاب !! متهمون نحن بالإرهاب إن نحن دافعنا عن الأرض وعن كرامة التراب إذا تمردنا على اغتصاب الشعب واغتصابنا إذا حمينا آخر النخيل في آخر في صحرائنا وآخر النجوم في سمائنا وآخر الحروف في أسمائنا وآخر الحليب في أثداء أمهاتنا إن كان هذا ذنبنا ما أروع الإرهاب !! أنا مع الإرهاب إن كان يستطيع أن ينقذني من المهاجرين من روسيا ورومانيا، وهنغاريا، وبولونيا وحُطوا في فلسطين على أكتافنا ليسرقوا مآذن القدس وباب المسجد الأقصى ويسرقوا النقوش والقباب أنا مع الإرهاب إن كان يستطيع أن يحرر المسيح ومريم العذراء والمدينة المقدسة من سفراء الموت والخراب !! بالأمس كان الشارع القومي في بلادنا يصهل كالحصان وكانت الساحات أنهارا تفيض عنفوان وبعد أوسلو لم يعد في فمنا أسنان فهل تحولنا إلى شعب من العميان والخرسان ؟؟ متهمون نحن بالإرهاب إن نحن دافعنا بكل قوة عن إرثنا الشعري عن حائطنا القومي عن حضارة الوردة عن ثقافة النايات في جبالنا وعن مرايا الأعين السوداء أنا مع الإرهاب إن كان يستطيع أن يحرر الشعب من الطغاة والطغيان وينقذ الإنسان من وحشية الإنسان ويرجع الليمون، والزيتون، والحسون، للجنوب من لبنان ويرجع البسمة للجولان أنا مع الإرهاب بكل ما أملك من شعر ومن نثر ومن أنياب ما دام هذا العالم الجديد بين يدي قصاب !! أنا مع الإرهاب ما دام هذا العالم الجديد قد صنفنا من فئة الذباب !! أنا مع الإرهاب إن كان مجلس الشيوخ في أمريكا هو الذي في يده الحساب وهو الذي يقرر الثواب والعقاب !! أنا مع الإرهاب ما دام هذا العالم الجديد يكره في أعماقه رائحة الأعراب !! أنا مع الإرهاب ما دام هذا العالم الجديد يريد أن يذبح أطفالي ويرميهم إلى الكلاب !! من أجل هذا كله أرفع صوتي عاليا أنا مع الإرهاب أنا مع الإرهاب أنا مع الإرهاب
معركة اليمين واليسار في الشعر العربيأتساءل، وملف قضية الشعر الحديث بين يدي، هل يحق لي أن أمد أصابعي إلى هذا الهرم المنحوت من حجارة الأعين، ومن ورق الورد ورفيف الأحلام. فأنا، كشاعر، جزء من القضية التي كلفت النظر فيها. فكيف ألبس ثوب القاضي وثوب المتهم في آن واحد؟ كيف أفصل في معركة أنا بعض وهجها ودخانها. هل أستطيع أن أكون موضوعيا إزاء موضوع أشتبك بلحمي وأنسجتي كما تشتبك خيوط كرة الصوف بين يدي قطة لاهية.. إن الموضوعية المطلقة في الأدب شيء مستحيل. ولا يمكنني أبدا أن أتصور الناقد أنبوبا في مختبر، أو عدسة في مجهر لا تنفعل بما ينطبع عليها من خطوط وظلال. لا بد لنا أن نحب أو أن نكره، أن نقبل هذه اللوحة أو نرفضها، أن نبارك هذه القصيدة أو أن نلعنها. أما الوقوف في منتصف الطريق، كأجزاء سيارة مفككة، مختبئين وراء قناع موضوعيتنا فهو إلغاء لإنسانيتنا وحرية اختيارنا، وهبوط بنا إلى مستوى الحجارة والطحالب. وأنا في هذا البحث عن الشعر الحديث أرفض أن أصبح حجرا أو طحلبا. أرفض أن أكون أنبوبا في مختبر لا يتذوق نكهة القصائد ولا يشم رائحتها. أرفض أن أبقى في (المنطقة الحرام) التي لا تعرف أن تحب.. ولا تعرف أن تكره. موضوعي هو معركة اليمين واليسار في الشعر العربي. واحتكاك اليمين باليسار أمر حتمي في كل مجتمع صحيح البنية ومعافى. المجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة. ما هو اليمين في شعرنا المعاصر ومن هم اليمنيون؟ اليمين هو الجانب الوقور الهادئ الذي يؤمن بقداسة القديم، ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور، إنه الجانب الذي ارتبط ذهنيا ونفسيا ووراثيا بنماذج من القول والتعبير يعتبرها نهائية وصالحة لكل زمان ومكان، ويرفض أي تعديل لها أو مساس بها. واليمنيون من شعرائنا هم تلك الفئة التي لا تزال ترى في "المعلقة" وفي "القصيدة العصماء" ذروة الكمال الأدبي وغاية الغايات. والقصيدة لديهم هي ذلك الوعاء التاريخي الذي يتسع لكل ما يسكب فيه، والثوب الجاهز لكل المقامات ولكل الهامات. وهي لديهم قدر محتوم لا نملك له ردا ولا دفعا. في مواجهة القديم المتعقب لحولياته وألفياته، يقف جيل اليسار بكل طفولته ونزقه وجنونه. إنه جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف، مبهور بهذه التيارات الفكرية الجديدة تهب عليه من كل مكان فتعلمه أن يثور، وأن يرفض، وأن يحفر بأظافره قدرا جديدا. إنه جيل يقرأ التاريخ ولكنه يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ. هندسة القصيدة العربية: جيل اليسار يعتقد أن القصيدة التقليدية كما ورثناها بأغراضها المعروفة وأبياتها الملتصقة ببعضها التصاقا صنعيا كقطع الفسيفساء هي إلى الزخرف والنقش أقرب منها إلى العمل الأدبي المتماسك الملتحم كقطعة النسيج. كما أن أسلوب بنائها يشابه بناء القلاع في القرون الوسطى.. مرمر.. ورخام.. وشموخ أعمدة. أما القصيدة الحديثة فهي أشبه بديكور حجرة صغيرة وزعت مقاعدها ولوحاتها وأوانيها بشكل ربما لا يوحي بالثراء الفاحش ولكنه يوحي بالدفء والألفة. القصيدة التقليدية لون من الريبورتاج السريع يجمع فيه الشاعر كل ما يخطر بباله من شؤون الحب والحياة والموت والسياسة والحكمة والأخلاق والدين. كل هذا يعرضه الشاعر بخطوط متوازية لا تلتقي أبدا. القصيدة التقليدية مجموعة أحجار ملونة مرمية على بساط.. تستطيع أن تزحزح أي حجر منها إلى أية جهة تريد. ومع ذلك تبقى الأحجار أحجارا.. والقصيدة قصيدة. هندسة القصيدة التقليدية هندسة مسطحة تعتمد على الخطوط الأفقية وعلى التقابل والتناظر في حين أن هندسة القصيدة الأوروبية هندسة فراغية تعتمد على البعد الثالث. فالبيت في القصيدة الأوروبية هندسة فراغية تعتمد على البعد الثالث. فالبيت في القصيدة الأوروبية ليس عالما قائما بذاته كما في القصيدة العربية. إنه خلية حية تعيش بين مجموعة خلايا في كيان عضوي واحد، لذلك كان حذف بيت في القصيدة الأوروبية معناه تعطيل خلية عن أداء وظيفتها. والقصيدة الأوروبية بعد ذلك تنمو نموا داخليا متدرجا حتى تصل إلى نقطة التجمع الأخيرة، كما تصب الروافد الصغيرة في النهر الكبير، وكما تأخذ النغمات بأذرع بعضها لتشكل السمفونية الهادرة. أعلى
كتاباتٌ على جدرانِ المنفىيا سيدتي : كيف أصور هذا العصر اللامعقول، نسيت الوصفا . كنت أظن الكلمة بـيـتي فإذا بهم .. سرقوا الباب .. وسرقوا السقـفا .. سرقوا الورق الأبـيض منـا، سرقوا الحرفا . ماذا نأكل ؟ ماذا نشرب ؟ كيف نعبر عن أنفسنا ؟ إنـنا نأكل ـ يا سيدتي ـ قمعـاً إنـنا نشرب ـ يا سيدتي ـ خوفا أين سنـذهب يا سيدتي ؟ إن عبور الشارعِ خطرٌ . إن ركوب المصعـد خطر . والسيارة خطر . والدراجة خطر . والطيارة خطر . ليس هنـاك مكانٌ يجلس فيـه الكاتب، ليس هناك مقهى .. نصف الجملة في الجبّـانة .. نصف الفكرة في المستـشفى .. يا سيدتي : ماذا يبقى من إنجيل الثورة، حين تـقرر قـتـل مغـنّـيها ؟ ماذا يـبـقى من كلمات الثـورة، حين ستمضغُ أكباد بـنـيها ؟ ماذا يـبـقى ؟ حين تخاف الدولة من رائحة الورد، فـتـُحرق كل مراعـيها .. ماذا يـتـبـقى من فـلسفـة الثورة، حين تخاف طلوع الشمس ِ، وتـنـتـفُ ريـشَ كنـاريها ؟. ماذا يـبـقى ؟ ماذا يـبـقى ؟ ماذا يـبـقى ؟ حين تبـولُ الثـورة فوق كلامِ نبـيِّها.. يا سيدتي : أطلب عفوك .. إن لم أكتب في عـينـيـكِ قصيدة شعـر ٍ إن العازف نسي العزفا . كيف أحبك، يا سيدتي ؟ إن مباحث أمن الدولة، تـلـقي القبـض على الأحلام ِ.. وترسل أهل العشق إلى المنـفى .. يا سيدتي .. يا سيدتي كنـتُ قديما أقـرأ جسمـكِ سطراً سطراً .. حرفـاً حرفـاً.. كنت قديما أشعل في نهديــكِ النارَ .. وأزرع بـيـنهما سيـفا .. أما اليوم .. فأصبح شكل النهدِ، يشابه أسوار المنفى .. يا سيدتي . يا لؤلؤتي . يا واحدتي. كيف أمارس فعل الحـبّ .. وطعم الجنـس له طعم المنـفى ؟؟ يا سيدتي : كيف أقاوم هذا العصر المملوكي، وهذا الحقـد النـيروني، وهذا الـقـتـل المجاني، وهذا العـنـفا ؟ كيف سأوقف هذا المـد اللاقومي، وهذا الفكر التجزيـئي، وهذا المطر الكبريـتي، وهذا النـزفا ؟ كيف نعبر عن مأزقنا ؟ كيف نعبر عمّا يُكسـرُ في داخلنـا ؟ كيف سنـتـلو آيَ الذكـرِ على جثـتـنا ؟ إن مباحث أمن الدولة تطلب منا أن لا نضحك .. أن لا نبكي .. أن لا ننطق .. أن لا نعشق .. أن لا نلمس كـف امـرأةٍ .. أن لا ننجب ولـدا.. أن لا نرسل أي خطاب أن لا نقرأ أي كتاب إلا عن أحوال الطقس، وإلا عن أسرار الطبخِ فتـلك قوانيـن المنفى .. يا سيدتي : ماذا أفـعل لو جاءتـني أمي في الأحلام ؟ ماذا أفعـل لو ناداني فــُل دمشقَ .. وعاتـبـني تـفـاح الشام ؟ ماذا أفعل لو عاودني طيـف أبي ؟ فالتجـأ القـلب إلى عيـنـيه الزرقاويـن .. كسرب حمام .. يا سيدتي : كيف أقـولك شعرا ؟ كيف أقـولك نـثـرا ؟ كيف أقـولك، يا سيدتي، دون كلام ؟ يا سيدتي : كيف أبشِّر بالحرية .. حين الشمس تواجه حكما بالإعدام ؟ كيف سآكل من خبز الحكام .. وأولادي من غير طعام ؟ يا سيدتي : إني رجل لم يـتـخرج من بارات السلطة، في أحد الأيام .. أو أشغـلتُ وظيـفـة قِردٍ .. بين قرود وزارت الإعلام !! يا سيدتي : إني رجل لا أتوارى خلف حروفي أو أتخـبّأ تحت عباءة أيِّ إمام .. يا سيدتي :لا تهتمي . فأنا أعرف كيـف أكون كبـيراً .. في عصر الأقـزام .. يا سيدتي :لا تهتمي سوف أظل أحبـكِ .. حتى أفتـح نـفـقا تحـت البحـر .. وأثـقـبَ حيـطان المنـفى . لا تهتمي .. لا تهتمي .. لا تهتمي .. إن المنفى في غابات الكحل الأسود ليس بمنفى .. لا تسألني من أنا ؟ وما الذي أفعله كي أتحدى الموت والزمان أنا الذي أسقطت ألف دولة ودولة لكي أقيم دولة الإنسان ..
متى يعلنون وفاة العرب ؟أحاولُ منذ الطُفولةِ رسْمَ بلادٍ تُسمّى - مجازا - بلادَ العَرَبْ تُسامحُني إن كسرتُ زُجاجَ القمرْ.. وتشكرُني إن كتبتُ قصيدةَ حبٍ وتسمحُ لي أن أمارسَ فعْلَ الهوى ككلّ العصافير فوق الشجرْ.. أحاول رسم بلادٍ تُعلّمني أن أكونَ على مستوى العشْقِ دوما فأفرشَ تحتكِ، صيفا، عباءةَ حبي وأعصرَ ثوبكِ عند هُطول المطرْ.. أحاولُ رسْمَ بلادٍ.. لها برلمانٌ من الياسَمينْ. وشعبٌ رقيق من الياسَمينْ. تنامُ حمائمُها فوق رأسي. وتبكي مآذنُها في عيوني. أحاول رسم بلادٍ تكون صديقةَ شِعْري. ولا تتدخلُ بيني وبين ظُنوني. ولا يتجولُ فيها العساكرُ فوق جبيني. أحاولُ رسْمَ بلادٍ.. تُكافئني إن كتبتُ قصيدةَ شِعْرٍ وتصفَحُ عني، إذا فاض نهرُ جنوني أحاول رسم مدينةِ حبٍ.. تكون مُحرّرةً من جميع العُقَدْ.. فلايذبحون الأنوثةَ فيها..ولايقمَعون الجَسَدْ.. رَحَلتُ جَنوبا..رحلت شمالا.. ولافائدهْ.. فقهوةُ كلِ المقاهي، لها نكهةٌ واحدهْ.. وكلُ النساءِ لهنّ - إذا ما تعرّينَ- رائحةٌ واحدهْ.. وكل رجالِ القبيلةِ لايمْضَغون الطعامْ ويلتهمون النساءَ بثانيةٍ واحدهْ. أحاول منذ البداياتِ.. أن لاأكونَ شبيها بأي أحدْ.. رفضتُ الكلامَ المُعلّبَ دوما. رفضتُ عبادةَ أيِ وثَنْ.. أحاول إحراقَ كلِ النصوصِ التي أرتديها. فبعضُ القصائدِ قبْرٌ، وبعضُ اللغاتِ كَفَنْ. وواعدتُ آخِرَ أنْثى.. ولكنني جئتُ بعد مرورِ الزمنْ.. أحاول أن أتبرّأَ من مُفْرداتي ومن لعْنةِ المبتدا والخبرْ.. وأنفُضَ عني غُباري. وأغسِلَ وجهي بماء المطرْ.. أحاول من سلطة الرمْلِ أن أستقيلْ.. وداعا قريشٌ.. وداعا كليبٌ.. وداعا مُضَرْ.. أحاول رسْمَ بلادٍ تُسمّى - مجازا - بلادَ العربْ سريري بها ثابتٌ ورأسي بها ثابتٌ لكي أعرفَ الفرقَ بين البلادِ وبين السُفُنْ.. ولكنهم..أخذوا عُلبةَ الرسْمِ منّي. ولم يسمحوا لي بتصويرِ وجهِ الوطنْ.. أحاول منذ الطفولةِ فتْحَ فضاءٍ من الياسَمينْ وأسّستُ أولَ فندقِ حبٍ..بتاريخ كل العربْ.. ليستقبلَ العاشقينْ.. وألغيتُ كل الحروب القديمةِ.. بين الرجال..وبين النساءْ.. وبين الحمامِ..ومَن يذبحون الحمامْ.. وبين الرخام ومن يجرحون بياضَ الرخامْ.. ولكنهم..أغلقوا فندقي.. وقالوا بأن الهوى لايليقُ بماضي العربْ.. وطُهْرِ العربْ.. وإرثِ العربْ.. فيا لَلعجبْ!! أحاول أن أتصورَ ما هو شكلُ الوطنْ? أحاول أن أستعيدَ مكانِيَ في بطْنِ أمي وأسبحَ ضد مياه الزمنْ.. وأسرقَ تينا، ولوزا، وخوخا، وأركضَ مثل العصافير خلف السفنْ. أحاول أن أتخيّلَ جنّة عَدْنٍ وكيف سأقضي الإجازةَ بين نُهور العقيقْ.. وبين نُهور اللبنْ.. وحين أفقتُ..اكتشفتُ هَشاشةَ حُلمي فلا قمرٌ في سماءِ أريحا.. ولا سمكٌ في مياهِ الفُراتْ.. ولا قهوةٌ في عَدَنْ.. أحاول بالشعْرِ..أن أُمسِكَ المستحيلْ.. وأزرعَ نخلا.. ولكنهم في بلادي، يقُصّون شَعْر النخيلْ.. أحاول أن أجعلَ الخيلَ أعلى صهيلا ولكنّ أهلَ المدينةِيحتقرون الصهيلْ!! أحاول - سيدتي - أن أحبّكِ.. خارجَ كلِ الطقوسْ.. وخارج كل النصوصْ.. وخارج كل الشرائعِ والأنْظِمَهْ أحاول - سيدتي - أن أحبّكِ.. في أي منفى ذهبت إليه.. لأشعرَ - حين أضمّكِ يوما لصدري - بأنّي أضمّ تراب الوَطَنْ.. أحاول - مذْ كنتُ طفلا، قراءة أي كتابٍ تحدّث عن أنبياء العربْ. وعن حكماءِ العربْ.. وعن شعراءِ العربْ.. فلم أر إلا قصائدَ تلحَسُ رجلَ الخليفةِ من أجل جَفْنةِ رزٍ.. وخمسين درهمْ.. فيا للعَجَبْ!! ولم أر إلا قبائل ليست تُفرّق ما بين لحم النساء.. وبين الرُطَبْ.. فيا للعَجَبْ!! ولم أر إلا جرائد تخلع أثوابها الداخليّهْ.. لأيِ رئيسٍ من الغيب يأتي.. وأيِ عقيدٍ على جُثّة الشعب يمشي.. وأيِ مُرابٍ يُكدّس في راحتيه الذهبْ.. فيا للعَجَبْ!! أنا منذ خمسينَ عاما، أراقبُ حال العربْ. وهم يرعدونَ، ولايمُطرونْ.. وهم يدخلون الحروب، ولايخرجونْ.. وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا ولا يهضمونْ.. أنا منذ خمسينَ عاما أحاولُ رسمَ بلادٍ تُسمّى - مجازا - بلادَ العربْ رسمتُ بلون الشرايينِ حينا وحينا رسمت بلون الغضبْ. وحين انتهى الرسمُ، ساءلتُ نفسي: إذا أعلنوا ذاتَ يومٍ وفاةَ العربْ.. ففي أيِ مقبرةٍ يُدْفَنونْ؟ ومَن سوف يبكي عليهم؟ وليس لديهم بناتٌ.. وليس لديهم بَنونْ.. وليس هنالك حُزْنٌ، وليس هنالك مَن يحْزُنونْ!! أحاولُ منذُ بدأتُ كتابةَ شِعْري قياسَ المسافةِ بيني وبين جدودي العربْ. رأيتُ جُيوشا..ولا من جيوشْ.. رأيتُ فتوحا..ولا من فتوحْ.. وتابعتُ كلَ الحروبِ على شاشةِ التلْفزهْ.. فقتلى على شاشة التلفزهْ.. وجرحى على شاشة التلفزهْ.. ونصرٌ من الله يأتي إلينا..على شاشة التلفزهْ.. أيا وطني: جعلوك مسلْسلَ رُعْبٍ نتابع أحداثهُ في المساءْ. فكيف نراك إذا قطعوا الكهْرُباءْ؟؟ أنا..بعْدَ خمسين عاما أحاول تسجيل ما قد رأيتْ.. رأيتُ شعوبا تظنّ بأنّ رجالَ المباحثِ أمْرٌ من الله..مثلَ الصُداعِ..ومثل الزُكامْ.. ومثلَ الجُذامِ..ومثل الجَرَبْ.. رأيتُ العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ.. ولكنني..ما رأيتُ العَرَبْ!!..
حوار ثوري مع طه حسين
أعلى
ثقافتنا
سقوط الوثنية الشعريةهل هناك قصيدة عربية حديثة؟ هل نستطيع أن نقول إن الأرض التي مشت عليها القصيدة العربية خمسة عشر قرنا، قد ضربها زلزال مفاجئ، فغيّر تركيبها العضوي والجيولوجي تماما؟. الأكيد أن القصيدة العربية قد انفصلت عن شجرة العائلة، وهربت نهائيا من (بيت الطاعة)، ووصاية الأجداد.. والأكيد.. الأكيد.. أن القصيدة العربية اكتشفت صوتها الخاص، بعد أن كانت مجموعة من العادات اللغوية والبلاغية، أخذت مع مرور الزمن شكل المسلَّمات الدينية التي لا تقبل الجدل أو النقاش. وباستثناء الأصوات المتفردة، فإن غالبية القصائد العربية كانت في حقيقتها قصيدة واحدة، تنقل عن نموذج محفوظ في الذاكرة، وسابق للتجربة. وبرغم أن الإسلام اقتلع الوثنية، وصفّى قواعدها، الا أن الوثنية الشعرية بقيت صامدة، وبقي الوثنيون يحكمون اللسان العربي، ويسيطرون على حركته بقوة الاستمرار والوراثة. وبموت العصر العباسي، دخل الشعر في العدمية المطلقة، وصارت القصائد موتا مكتوبا. لقد استمرت القصيدة – الموت متمددة على حياتنا خمسة قرون، لا يجرؤ أحد على دفنها. وكانت القصائد في تلك الحقبة كأضرحة الأولياء، لا يسمح لأحد بتدنيس حرماتها والاعتداء على مقدساتها. وحين خرج الإنسان العربي في مطلع العشرينات من غرفة التخدير، وبدأ يستعيد وعيه الوجودي والسياسي، ويسترد تفكيره المحجوز عليه، أدرك أن وضعه الجديد يحتاج إلى كلام جديد، وأن الخروج من عصر الانحطاط لا يكون الا بالخروج من ثياب عصور الانحطاط، وعقلية عصور الانحطاط، وقبل كل شيء، من لغة ومفردات عصور الانحطاط. إن التحولات السياسية العنيفة التي تعرضت لها المنطقة العربية في مطلع هذا القرن، ما كان يمكن أن تتم بمنأى عن تحولات مماثلة في عقل الإنسان العربي وفي لغته. الثورة فعل جديد وكلام جديد في آن واحد، أي تطبيق ورؤيا، ويصعب عليّ أن أتصور ثورة جديدة تعيد نفس الكلام القديم. ومن هنا، كان على القصيدة العربية أن تنسجم مع الثورة أو تستقيل، أن تتقدم نحو المستقبل، أو تدفن نفسها في ضريح التاريخ، وتتحول إلى ذكرى. والواقع أن القصيدة العربية وصلت في نهايات القرن التاسع عشر إلى سن اليأس، وتحولت إلى عانس فقدت أملها بالزواج والإخصاب.. إذن، كان لا بد للقصيدة التاريخية أن تنسحب، بعد أن أدركتها الشيخوخة، وأصبحت ثمرة من الخشب لا عصير فيها. وهذا لا يعني بشكل من الأشكال، أن القصيدة الحديثة هي البديل التاريخي للقصيدة التقليدية، إنها على العكس نقيضها والقطب المقابل لها. فحين ظلت القصيدة القديمة خشبة تعوم على سطح اللغة، ونوعا من أشغال الإبرة والحفر على النحاس، ورحيلا مضجرا داخل مملكة النحو، والصرف، والعروض، ونقلا فوتوغرافيا للواقع بالأبيض والأسود، ألقت القصيدة الحديثة على ظهرها هذه التركة الثقيلة، وقررت أن تنفصل عن مسقط رأسها، وتهجر البيت الأبوي. أخطر ما فعلته القصيدة العربية هو: 1- الخروج من الزمن الشعري العربي الواقف، إلى زمن تتمدد أجزاؤه، وتتسع في كل لحظة. القصيدة الحديثة جاءتنا ومعها زمنها الخاص، بعد أن كان جميع الشعراء العرب يسكنون في زمن واحد. كما تسكن القبيلة في خيمة واحدة، وتغرف الطعام من إناء واحد. وهذه السكنى في الزمن الواحد، جعلت أعمار الشعراء واحدة، سواء من وُلد منهم في القرن الثالث أو العاشر، أو الثالث عشر للهجرة. 2- قادت حركة عصيان خطيرة، ضد كل العادات والأنماط اللغوية والبلاغية التي التصقت بها ولاديا. فالشاعر العربي الحديث هو الذي يكتب لغته، وليست اللغة هي التي تكتبه. وبعبارة أخرى لا يرتبط بأي التزام سابق يجعله موظفا عند مفردات قصيدته. 3- لم تعد وظيفة القصيدة الحديثة أن تعلّمنا ما هو معلوم، وتنظم لنا من جديد ما هو منظوم، صارت وظيفتها أن ترمينا على أرض الدهشة والتوقع، وتسافر بنا إلى مدن الغرابة. وبهذا المعنى لم تعد القصيدة انتظارا للمنتظر.. – كما كانت على أيدي نجّاري الشعر وببغاواته خلال ما يقارب الألف عام – بل أصبحت شوقا لما لا يأتي، وانتظارا لما لا يُنتظر.. 4- تحرّرت القصيدة الحديثة موسيقيا من الجبريّة، ومن حتمية البحور الخليليّة، ووثنية القافية الموحّدة، وكسرت اشارات المرور الحمراء التي كانت تعترض حركتها، وتقص أجنحة حريتها. موسيقى القصيدة الحديثة، ليس لها نص مكتوب، ولا تدوَّن كما تدوَّن المقامات والبشارف والموشّحات، ولا تُعزف عزفا جماعيا، كما كشفتْ القراءات الشعرية التي قدّمها الشعراء العرب المحدّثون. ذلك لأن موسيقى هذا الشعر، تأتي من فعل الكتابة نفسه، ومن المعاناة المستمرة، والمغامرة مع المجهول اللغوي والنفسي، لا من التراكمات الصوتية والنغمية المخزونة في أذننا الداخلية بشكل وراثي وعضوي. ولأن موسيقى الشعر الحديث هي مغامرة شخصية بين الشاعر والعالم، وبين الشاعر واللغة، فلا يمكن التكهن بالصيغة النهائية التي تصل إليها القصيدة العربية في المستقبل. والشيء الأكيد أنه كلما كبرت الحرية، ازدادت الاحتمالات، وربح الشعر مساحات جديدة من الأرض لم يكن يحلم باستملاكها. وليست (قصيدة النثر) سوى واحدة من الجزر الجميلة التي أهدتها الحرية للشعر العربي الحديث. 5- هندسيا تغير المخطط العام للقصيدة العربية تغيرا جذريا.. أُزيلت الجدران الداخلية، والحواجز العازلة التي كانت تجعل من القصيدة القديمة فندقا بمئات الحجرات.. وناطحةَ سحاب بمئات الطبقات.. القصيدة الحديثة مهندَسة بشكل مختلف، يجعلها أفقا بحريا مكشوفا، يندمج فيه الماء، والسماء، والرمل، وحشائش البحر، وصواري المراكب، في زرقة موحدة.. وكما في الغابات الكثيفة الشجر والورق، وكما في السمفونيات العظيمة، ليس ثمة انفصال بين الجزء والكل، بين الشجرة وبين محيطها الشجري، وبين النغمة وبين مكانها من الإيقاع العام، فإن بيت الشعر العربي المنعزل كقلعة أثرية، والمكتفي اكتفاءً ذاتيا بجمال صورته وبراعة صنعته، أو مأثور حكمته، لم يعد يشكل أي أهمية استراتيجية على خارطة الشعر الحديث، حيث الشاعر يخترق جدار العالم، ويضيء كالبرق وجه الأشياء.. دون التوقف على محطات التموين الصغيرة.. التي كان يسمّونها (أبيات القصيد).. 6- صارت القصيدة سهما باتجاه العمق، بعد أن كانت دائرة مرسومة على وجه الماء، تنفلش كلما اتسع قطرها. وهذا التحول في الحركة من البرّانية إلى الجوّانية، ومن يقين الحواس الخمس، إلى شَطَحات الحلم، وتركيبات العقل الباطن، ومن اللمس بأصابع اليد، إلى اللمس بأصابع الحدْس، ومن الإضاءة البدائية المباشرة، إلى الإضاءة العصرية التي تتقن لعبة الظل والتمويه، جعل للقصيدة الحديثة أكثر من بُعد واحد. كل هذه الانقلابات في بنية القصيدة العربية الحديثة تمّت بشكل انفجار مخالف لكل قوانين التاريخ الأدبي وتوقعاته. وأكاد أقول إن ولادتها بهذا الشكل المباغت كان ولادة لا منطقية. بدليل أن الذوق العربي لا يزال مبهورا ومدهوشا أمام الطفل الجديد الذي ليس في عينيه شيء من ملامح أجداده. إن تحفظ الذوق العربي العام، لدى قراءة القصيدة الحديثة أو سماعها، شيء منتظر وطبيعي، وهو دليل على أن هذه القصيدة أصبحت متقدمة على الذوق العربي العام، وبالتالي صارت قادرة على ترويضه وتحضيره. 7- لأن القصيدة العربية الحديثة تتعامل مع اللامنتظر والمجهول. فهي قصيدة صعبة، تأليفها صعب، والدخول إليها صعب. القصائد القديمة سهلة، لأن طبيعتها مستوية ومكشوفة. وهندستها العامة لا تحتمل المصادفات ولا المفاجئات، فهي مجموعة مقنّنة من المهارات التشكيلية والتزيينية، يستطيع كل من تمرّس بها أن ينتمي لنقابة الشعر. ومن هنا، كانت الكتاتيب، والمساجد، والتكايا، والزوايا، والمقاهي، والجمعيات الخيرية، وحلقات محو الأمية، هي الأكاديميات التي تخرّج منها ألوف النظّامين العربي. 8- الشعر الحديث حمل إلينا التعب. لأنه حمل إلينا السر، وطرح الأسئلة، وعلّمنا ما لم نعلم. بينما الشعر القديم، أو أكثره على الأقل، علّمنا ما نعلم وأجابنا قبل أن نسأل، ورمانا على سجادة الكسل والطمأنينة. والشعر العظيم لا يتعامل مع الطمأنينة أبدا. وبكلمة أخرى ان الشعر العظيم لا يتوخى سلامة من يقرؤونه، بل يتآمر على سلامتهم، ويضعهم في منطقة الخطر.. 9- خرج الشعر العربي الحديث من الموالاة إلى المعارضة، واستقال من وظيفته القديمة كمغنٍ في جوقة الملك، أو كسائس لخيوله، أو كمرفّه عن زوجاته.. ولذلك يعيش شعرنا اليوم منفيا خارج المدن التي ترفض أن تتغير. ويعيش الشاعر في حالة تصادم مستمر مع السلطة التي تريد أن تدجّنه، وتستأصل غدد الرفض فيه، وتجعل منه صوتا في كومبارس وزارات الإعلام. إن النظم بشكل عام تقف بوجه الشاعر، لأنها تمثل الاستمرار والثبات، في حين يمثل الشاعر إرادة الحركة والتحول. وهكذا تنقطع خيوط الحوار، وتنعدم الثقة، ويدرج اسم الشاعر في لوائح المخرّبين، والفوضويين، والخارجين على القانون. 10- تجاوز الشاعر الحديث أيضا حدود القبيلة وتفكيرها المحلي، وهمومها الصغيرة، وساعدته وسائل الحضارة الحديثة، وتقلّص حجم الكرة الأرضية، والانفجار الثقافي والعلمي في العالم، على أن يفكر تفكيرا كونيا، ويحس إحساسا كونيا، ويكون جزءا من فرح العالم ومن حزنه. إلا أن خوفي الوحيد على الشعر الحديث، ناشئ من تشابه نماذجه، واصطلاحاته، ورموزه، بحيث أصبحت قراءة قصيدة واحدة من هذا الشعر تغنيك عن قراءة بقية النماذج. وهذه الظاهرة شديدة الخطورة لأنها ستُدخل الشعر الحديث مرة أخرى في دائرة الإعادة والتكرار.. وبالتالي فإن القصيدة الحديثة ستأخذ نفس الخط البياني الذي أخذته القصيدة العمودية.. وتدخل في نفس مدارها المغلق.
جمال عبد الناصرقتلناكَ.. يا آخرَ الأنبياءْ قتلناكَ.. ليسَ جديداً علينا اغتيالُ الصحابةِ والأولياءْ فكم من رسولٍ قتلنا.. وكم من إمامٍ.. ذبحناهُ وهوَ يصلّي صلاةَ العشاءْ فتاريخُنا كلّهُ محنةٌ وأيامُنا كلُّها كربلاءْ.. نزلتَ علينا كتاباً جميلاً ولكننا لا نجيدُ القراءةْ.. وسافرتَ فينا لأرضِ البراءةْ ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا.. تركناكَ في شمسِ سيناءَ وحدكْ.. تكلّمُ ربكَ في الطورِ وحدكْ وتعرى.. وتشقى.. وتعطشُ وحدكْ.. ونحنُ هنا نجلسُ القرفصاءْ نبيعُ الشعاراتِ للأغبياءْ ونحشو الجماهيرَ تبناً وقشاً ونتركهم يعلكونَ الهواءْ قتلناكَ.. يا جبلَ الكبرياءْ وآخرَ قنديلِ زيتٍ.. يضيءُ لنا في ليالي الشتاءْ وآخرَ سيفٍ من القادسيةْ قتلناكَ نحنُ بكلتا يدينا وقُلنا المنيَّةْ لماذا قبلتَ المجيءَ إلينا؟ فمثلُكَ كانَ كثيراً علينا.. سقيناكَ سُمَّ العروبةِ حتى شبعتْ.. رميناكَ في نارِ عمَّانَ حتى احترقتْ أريناكَ غدرَ العروبةِ حتى كفرتْ لماذا ظهرتَ بأرضِ النفاقْ.. لماذا ظهرتْ؟ فنحنُ شعوبٌ من الجاهليةْ ونحنُ التقلّبُ.. نحنُ التذبذبُ.. والباطنيّةْ.. نُبايعُ أربابنا في الصباح.. ونأكلُهم حينَ تأتي العشيّةْ.. قتلناكَ.. يا حُبّنا وهوانا وكنتَ الصديقَ، وكنتَ الصدوقَ، وكنتَ أبانا.. وحينَ غسلنا يدينا.. اكتشفنا بأنّا قتلنا مُنانا.. وأنَّ دماءكَ فوقَ الوسادةِ.. كانتْ دِمانا نفضتَ غبارَ الدراويشِ عنّا.. أعدتَ إلينا صِبانا وسافرتَ فينا إلى المستحيل وعلمتنا الزهوَ والعنفوانا.. ولكننا حينَ طالَ المسيرُ علينا وطالتْ أظافرُنا ولحانا قتلنا الحصانا.. فتبّتْ يدانا.. فتبّتْ يدانا.. أتينا إليكَ بعاهاتنا.. وأحقادِنا.. وانحرافاتنا.. إلى أن ذبحناكَ ذبحاً بسيفِ أسانا فليتكَ في أرضِنا ما ظهرتَ.. وليتكَ كنتَ نبيَّ سِوانا… أبا خالدٍ.. يا قصيدةَ شعرٍ.. تقالُ. فيخضرُّ منها المدادْ.. إلى أينَ؟ يا فارسَ الحُلمِ تمضي.. وما الشوطُ، حينَ يموتُ الجوادْ؟ إلى أينَ؟ كلُّ الأساطيرِ ماتتْ.. بموتكَ.. وانتحرتْ شهرزادْ وراءَ الجنازةِ.. سارتْ قريشٌ فهذا هشامٌ.. وهذا زيادْ.. وهذا يريقُ الدموعَ عليكْ وخنجرهُ، تحتَ ثوبِ الحدادْ وهذا يجاهدُ في نومهِ.. وفي الصحوِ.. يبكي عليهِ الجهادْ.. وهذا يحاولُ بعدكَ مُلكاً.. وبعدكَ.. كلُّ الملوكِ رمادْ.. وفودُ الخوارجِ.. جاءتْ جميعاً لتنظمَ فيكَ.. ملاحمَ عشقٍ.. فمن كفَّروكَ.. ومَنْ خوَّنوكَ.. ومَن صلبوكَ ببابِ دمشقْ.. أُنادي عليكَ.. أبا خالدٍ وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد…
رسالة إلى جمال عبد الناصروالدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ: عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ.. من أرضِ مصرَ الطيبةْ من ليلها المشغولِ بالفيروزِ والجواهرِ ومن مقاهي سيّدي الحسين، من حدائقِ القناطرِ ومن تُرعِ النيلِ التي تركتَها.. حزينةَ الضفائرِ.. عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ من الملايينِ التي قد أدمنتْ هواكْ من الملايين التي تريدُ أن تراكْ عندي خطابٌ كلّهُ أشجانْ لكنّني.. لكنّني يا سيّدي لا أعرفُ العنوانْ… والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ الزرعُ في الغيطان، والأولادُ في البلدْ ومولدُ النبيِّ، والمآذنُ الزرقاءُ.. والأجراسُ في يومِ الأحدْ.. وهذهِ القاهرةُ التي غفَتْ.. كزهرةٍ بيضاءَ.. في شعرِ الأبَدْ.. يسلّمونَ كلّهم عليكْ يقبّلونَ كلّهم يديكْ.. ويسألونَ عنكَ كلَّ قادمٍ إلى البلدْ متى تعودُ للبلدْ؟… حمائمُ الأزهرِ يا حبيبَنا.. تُهدي لكَ السلامْ مُعدّياتُ النيلِ يا حبيبَنا.. تّهدي لكَ السلامْ.. والقطنُ في الحقولِ، والنخيلُ، والغمامُ.. جميعُها.. جميعُها.. تُهدي لكَ السلامْ.. كرسيُّكَ المهجورُ في منشيّةِ البكريِّ.. يبكي فارسَ الأحلامْ.. والصبرُ لا صبرَ لهُ.. والنومُ لا ينامْ وساعةُ الجدارِ.. من ذهولِها.. ضيّعتِ الأيّامْ.. يا مَن سكنتَ الوقتَ والأيامْ عندي خطابٌ عاجلٌ إليكَ.. لكنّني… لكنّني يا سيّدي.. لا أجدُ الكلامْ لا أجدُ الكلامْ.. والدُنا جمالَ عبدَ الناصرْ: الحزنُ مرسومٌ على الغيومِ، والأشجارِ، والستائرِ وأنتَ سافرتَ ولم تسافرِ.. فأنتَ في رائحةِ الأرضِ، وفي تفتُّحِ الأزاهرِ.. في صوتِ كلِّ موجةٍ، وصوتِ كلِّ طائرِ في كتبِ الأطفالِ، في الحروفِ، والدفاترِ في خضرةِ العيونِ، وارتعاشةِ الأساورِ.. في صدرِ كلِّ مؤمنٍ، وسيفِ كلِّ ثائرِ.. عندي خطابٌ عاجلٌ إليكْ.. لكنّني.. لكنّني يا سيّدي.. تسحقُني مشاعري.. يا أيُها المعلّمُ الكبيرْ كم حزنُنا كبيرْ.. كم جرحُنا كبيرْ.. لكنّنا نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ أن نحبسَ الدموعَ في الأحداقْ.. ونخنقَ العبرهْ.. نقسمُ باللهِ العليِّ القديرْ.. أن نحفظَ الميثاقْ.. ونحفظَ الثورهْ.. وعندما يسألُنا أولادُنا من أنتمُ؟ في أيِّ عصرٍ عشتمُ..؟ في عصرِ أيِّ مُلهمِ؟ في عصرِ أيِّ ساحرِ؟ نجيبُهم: في عصرِ عبدِ الناصرِ.. الله.. ما أروعها شهادةً أن يوجدَ الإنسانُ في عصرِ عبدِ الناصرِ..
الهرم الرابعالسيّدُ نامْ السيّدُ نام السيّدُ نامَ كنومِ السيفِ العائدِ من إجدى الغزواتْ السيّدُ يرقدُ مثلَ الطفلِ الغافي.. في حُضنِ الغاباتْ السيّدُ نامَ.. وكيفَ أصدِّقُ أنَّ الهرمَ الرابعَ ماتْ؟ القائدُ لم يذهبْ أبداً بل دخلَ الغرفةَ كي يرتاحْ وسيصحو حينَ تطلُّ الشمسُ.. كما يصحو عطرُ التفاحْ.. الخبزُ سيأكلهُ معنا.. وسيشربُ قهوتهُ معنا.. ونقولُ لهُ.. ويقولُ لنا.. القائدُ يشعرُ بالإرهاقِ.. فخلّوهُ يغفو ساعاتْ.. يا مَن تبكونَ على ناصرْ.. السيّدُ كانَ صديقَ الشمس.. فكفّوا عن سكبِ العبراتْ.. السيّد ما زالَ هُنا.. يتمشّى فوقَ جسورِ النيلِ.. ويجلسُ في ظلِّ النخلاتْ.. ويزورُ الجيزةَ عندَ الفجرِ.. ليلثمَ حجرَ الأهراماتْ. يسألُ عن مصرَ.. ومَن في مصرَ.. ويسقي أزهارَ الشرفاتْ.. ويصلّي الجمعةَ والعيدينِ.. ويقضي للناسِ الحاجاتْ ما زالَ هُنا عبدُ الناصرْ.. في طميِ النيلِ، وزهرِ القطنِ.. وفي أطواقِ الفلاحاتْ.. في فرحِ الشعبِ.. وحزنِ الشعب.. وفي الأمثالِ وفي الكلماتْ ما زالَ هُنا عبدُ الناصرْ.. من قالَ الهرمُ الرابعُ ماتْ؟ يا مَن يتساءلُ: أينَ مضى عبدُ الناصرْ؟ يا مَن يتساءلُ: هلْ يأتي عبدُ الناصرْ.. السيّدُ موجودٌ فينا.. موجودٌ في أرغفةِ الخُبزِ.. وفي أزهارِ أوانينا.. مرسومٌ فوقَ نجومِ الصيفِ، وفوقَ رمالِ شواطينا.. موجودٌ في أوراقِ المصحفِ في صلواتِ مُصلّينا.. موجودٌ في كلماتِ الحبِّ.. وفي أصواتِ مُغنّينا.. موجودٌ في عرقِ العمّالِ.. وفي أسوانَ.. وفي سينا.. مكتوبٌ فوقَ بنادقنا.. مكتوبٌ فوقَ تحدينا.. السيّدُ نامَ.. وإن رجعتْ أسرابُ الطيرِ.. سيأتينا..
إلى بيروت الأنثى ، مع الاعتذار
أعلى
الديك
أعلى
درسٌ في الرسم
قُرص الأسبرينليسَ هذا وطني الكبير لا.. ليسَ هذا الوطنُ المربّعُ الخاناتِ كالشطرنجِ.. والقابعُ مثلَ نملةٍ في أسفلِ الخريطة.. هوَ الذي قالّ لنا مدرّسُ التاريخِ في شبابنا بأنهُ موطننا الكبير. لا.. ليسَ هذا الوطنُ المصنوعُ من عشرينَ كانتوناً.. ومن عشرينَ دكاناً.. ومن عشرينَ صرّافاً.. وحلاقاً.. وشرطياً.. وطبّالاً.. وراقصةً.. يسمّى وطني الكبير.. لا.. ليسَ هذا الوطنُ السّاديُّ.. والفاشيُّ والشحّاذُ.. والنفطيُّ والفنّانُ.. والأميُّ والثوريُّ.. والرجعيُّ والصّوفيُّ.. والجنسيُّ والشيطانُ.. والنبيُّ والفقيهُ، والحكيمُ، والإمام هوَ الذي كانَ لنا في سالفِ الأيّام حديقةَ الأحلام.. لا.. ليسَ هذا الجسدُ المصلوبُ فوقَ حائطِ الأحزانِ كالمسيح لا.. ليسَ هذا الوطنُ الممسوخُ كالصرصار، والضيّقُ كالضريح.. لا.. ليسَ هذا وطني الكبير لا.. ليسَ هذا الأبلهُ المعاقُ.. والمرقّعُ الثيابِ، والمجذوبُ، والمغلوبُ.. والمشغولُ في النحوِ وفي الصرفِ.. وفي قراءةِ الفنجانِ والتبصيرِ.. لا.. ليسَ هذا وطني الكبير لا.. ليسَ هذا الوطنُ المنكَّسُ الأعلامِ.. والغارقُ في مستنقعِ الكلامِ، والحافي على سطحٍ من الكبريتِ والقصدير لا.. ليسَ هذا الرجلُ المنقولُ في سيّارةِ الإسعافِ، والمحفوظُ في ثلّاجةِ الأمواتِ، والمعطّلُ الإحساسِ والضمير لا.. ليسَ هذا وطني الكبير لا.. ليسَ هذا الرجلُ المقهورُ.. والمكسورُ.. والمذعورُ كالفأرةِ.. والباحثُ في زجاجةِ الكحولِ عن مصير لا.. ليسَ هذا وطني الكبير.. يا وطني: يا أيّها الضائعُ في الزمانِ والمكانِ، والباحثُ في منازلِ العُربان.. عن سقفٍ، وعن سرير لقد كبرنا.. واكتشفنا لعبةَ التزوير فالوطنُ المن أجلهِ ماتَ صلاحُ الدين يأكلهُ الجائعُ في سهولة كعلبةِ السردين.. والوطنُ المن أجلهِ قد غنّت الخيولُ في حطّين يبلعهُ الإنسانُ في سهولةٍ.. كقُرص أسبرين!!..
حول خبز وحشيش وقمرهناك حوادث مرّت بحياتي كشاعر، غيّرت مساري تغييرا جذريا، وقلبت خرائطي واختياراتي. وثمة أشخاص قابلتهم بالمصادفة، شعرت أنهم مرسلون من عالم آخر، جاؤوا ليبلغوني أمرا.. أو رسالة.. ثم يختفون.. وثمة مدن دخلتها وأنا خالي البال، وخرجت منها وثيابي تشتعل بنار العشق، وأوراقي وحقائبي حبلى بالقصائد، وقلبي أكواريوم من السمك الملون. وفي هذه الأوراق سأقول ما عندي، عن القصص الغريبة التي عشتها، والأشخاص الغامضين الذين التقيتهم، والمدن السحرية التي دخلت إليها كسائح، وخرجت منها على صورة عصفور.. أو قوس قزح.. هذه الحكايات كانت مطمورة في قعر الذاكرة.. ومغطاة بحشيش البحر.. وقد قرّرت أن أعوّمها كأية باخرة غارقة، وأستعيد ما كان عليها من كتب، وأوراق، ودفاتر مذاكرات، وجوازات سفر.. وأمتعة.. قبل أن تأكلها الأسماك.. إنها قصص واقعية بكل معنى الكلمة، وأنا أقصها عليكم كما جرت تماما أي بدون أي (روتشة).. أو تكحيل أو تجميل. وأنا إذ أقوم بدور الراوي لهذه الحكايات، فإنني لا أفعل ذلك من باب النرجسية والاستعراضية، ولكنني أقوم بذلك لتقديم شهادات اضافية عن الشعر، وعن العلاقة التي تصل إلى حدود الكهانة والسحر، بين الشاعر العربي المخلوق من صلصال وطين، وبين جمهور عربي بصر على اعتباره من جنس الملائكة الذين لا يأكلون.. ولا يشربون.. ولا يقربون النساء.. عام 1954 في لندن، كان عام الرياح والزوابع والالتحام بالسلاح الأبيض مع الأوساط الأدبية، والدينية، والسياسية، والبرلمانية. والمعارك الطاحنة التي دخلتها، لم تكن بسبب (داحس) أو (الغبراء).. أو بسبب الاختلاف على ناقة، أو نبع ماء.. ولكنها كانت بسبب قصيدة عنوانها: (خبز.. وحشيش.. وقمر..) أقامت الدنيا كلها فوق رأسي.. ولم تقعدها.. أرسلت القصيدة من لندن إلى صديقي الدكتور سهيل إدريس، صاحب مجلة (الآداب) اللبنانية المعروفة بخطها القومي والتحرّري. وكنت آنئذ أعمل دبلوماسيا في السفارة السورية في لندن. لم يعترض سهيل على القصيدة، ولم يتخوّف منها، بل نشرها افتتاحية في مجلته، كما كان ينشر كل ما أرسله إليه من قصائد حب لا تخلو من الجرأة، والاقتحام، والبهارات الجمالية والجنسية. ولكن ما أن صدرت (الآداب) حتى قرعت أجراس الخطر، في كل عواصم العالم العربي، وطالب متزمتون بشنقي، وطردي من وزارة الخارجية السورية، لأنني حسب اجتهادهم، خنت بلادي، وانحرفت عن عقيدتي، وأصبحت عميلا (للأنتلجانس سيرفيس)، لأنني ألصقت على غلاف رسالتي المرسلة إلى (الآداب).. طابعا بريطانيا.. هكذا بكل بساطة أصبحت عميلا، لأنني هاجمت الكسالى، والمسطولين، وآكلي القضامة والبذر.. وراقصي الزار.. والدراويش.. والمنبطحين في منتصف كل شهر عربي، تحت أقدام ضوء القمر.
(ما الذي بفعله قرص ضياء؟
(في ليالي الشرق، لمّا يبلغ البدر تمامه..
(في بلادي.. هذه مقاطع من القصيدة – الإثم، أو القصيدة – الجريمة، التي أوصلتني إلى المجلس النيابي السوري، وهي سابقة لم تحدث في أي برلمان من برلمانات العالم، فانبرى أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا، النائب عن جماعة الإخوان المسلمين، بتقديم استجواب عنيف لوزير الخارجية آنئذ الأستاذ خالد العظم، طالبا منه إحالتي إلى اللجنة التأديبية، وطردي من وزارة الخارجية. وتأييدا لأقواله، قام النائب الزرقا، بتلاوة القصيدة على النواب. وكان لحسن حظي، فصيح اللسان، رائع الإلقاء، فما أن انتهى من تلاوة القصيدة، حتى انفجرت قاعة مجلس النواب، وشرفة المتفرجين ورجال الصحافة بالتصفيق.. فعاد النائب والعرق يتصبب من جبينه، إلى مقعده.. مخذولا.. ومحبطا.. وباظ الاستجواب!!.. في اليوم التالي لجلسة الاستجواب قام النواب الأصوليون بزيارة الرئيس خالد العظم في مكتبه بوزارة الخارجية، وأثاروا قضية القصيدة مرة أخرى، مطالبين بإحالتي على اللجنة التأديبية للوزارة. فاستمهلهم الرئيس العظم قليلا حتى يقرأ ملفي الوظيفي الذي حمله إليه الأمين العام لوزارة الخارجية. وعندما انتهى الرئيس العظم من قراءة ملفي، قال لهم: -" يا حضرات النواب الأعزاء: أحبّ أن أصارحكم أن وزارة الخارجية السورية فيها نزاران.. نزار قباني الموظف، ونزار قباني الشاعر. أما نزار قباني الموظف، فملفه الوظيفي أمامي. وهو ملف جيد، ويثبت أنه من خيرة موظفي هذه الوزارة.. أما نزار قباني الشاعر، فقد خلقه الله شاعرا، وأنا كوزير للخارجية لا سلطة لي عليه.. ولا على شعره.. فإذا كنتم تقولون أنه هاجمكم بقصيدة.. فيمكنكم أن تهجوه بقصيدة مضادّة.. وكفى الله المؤمنين شر القتال!!.." وانتهت المقابلة.. وخرج الشعر منتصرا.. رحم الله دولة الرئيس خالد العظم. وحتى تكتمل أطراف الحكاية حول قصيدتي (خبز وحشيش وقمر). أودّ أن أنوّه بموقف كبير آخر لسفير سوريا آنذاك في لندن الأستاذ فايز الخوري، وهو عالم من علماء القانون، واللغة، ومن رجالات سوريا المرموقين في فترة النضال الوطني. شكوت له ذات صباح، هذه الهجمة الشرسة التي أتعّرض لها من الصحافة العربية، وهذه الإشاعات والأكاذيب التي يختلقونها حولي وحول القصيدة. فطلب لي السفير فنجانا من القهوة، ومدّ يده إلى جارور مكتبه، وأخرج دفتر شيكاته.. وقال: " يا عزيزي نزار: إذا كنت متضايقا مما يقال عن القصيدة، وتريد أن تتخلص منها، فأنا فايز الخوري مستعد أن أشتريها فورا. فحدّد المبلغ الذي تريده، وسوف أوقّع لك شكاً بالمبلغ الذي تريده.. على شرط أن تضع اسمي تحت القصيدة!!. فهدّئ أعصابك يا نزار، وثق أن جميع هذه الأصوات النشاز التي تهاجمك سوف تطحنها عجلات الأيام، ولن يبقى في خزانة التاريخ سوى أنت.. وقصيدتك.." أخجلتني كلمات السفير، فكفكفت دموعي، وخرجت من مكتبه وأنا أعلى قامة.. وأكثر كبرياء.
خبز وحشيش وقمرعندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ فالسطوحُ البيضُ تغفو.. تحتَ أكداسِ الزَّهرْ يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ لملاقاةِ القمرْ.. يحملونَ الخبزَ، والحاكي، إلى رأسِ الجبالْ ومعدَّاتِ الخدرْ.. ويبيعونَ، ويشرونَ.. خيالْ وصُورْ.. ويموتونَ إذا عاشَ القمرْ ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ ببلادي.. ببلادِ الأنبياء. وبلادِ البسطاءْ.. ماضغي التبغِ، وتجَّارِ الخدرْ ما الذي يفعلهُ فينا القمرْ؟ فنضيعُ الكبرياءْ ونعيشُ لنستجدي السماءْ ما الذي عندَ السماءْ لكُسإلى ضعفاءْ يستحيلونَ إلى موتى.. إذا عاشَ القمرْ.. ويهزّونَ قبور الأولياءْ علّها.. ترزقُهم رزّاً وأطفالاً.. قبورُ الأولياءْ.. ويمدّونَ السجاجيدَ الأنيقاتِ الطُررْ يتسلّونَ بأفيونٍ.. نسمّيهِ قدرْ.. وقضاءْ.. في بلادي.. في بلادِ البسطاءْ.. أيُّ ضعفٍ وانحلالْ يتولانا إذا الضوءُ تدفّقْ فالسجاجيدُ، وآلاف السلالْ وقداحُ الشاي.. والأطفال.. تحتلُّ التلالْ في بلادي.. حيثُ يبكي الساذجونْ ويعيشونَ على الضوءِ الذي لا يبصرونْ في بلادي.. حيثُ يحيا الناسُ من دونِ عيونْ حيثُ يبكي الساذجونْ ويصلّونَ، ويزنونَ، ويحيونَ اتّكالْ منذُ أن كانوا.. يعيشونَ اتّكالْ وينادونَ الهلالْ: " يا هلالْ.. أيها النبعُ الذي يمطرُ ماسْ وحشيشاً.. ونُعاسْ أيها الربُّ الرخاميُّ المعلّقْ أيها الشيءُ الذي ليسَ يُصدَّقْ دُمتَ للشرقِ.. لنا عنقودَ ماسْ للملايينِ التي قد عُطِّلت فيها الحواس " في ليالي الشرقِ لمّا يبلغُ البدرُ تمامهْ.. يتعرّى الشرقُ من كلِّ كرامهْ ونضالِ.. فالملايينُ التي تركضُ من غيرِ نعالِ.. والتي تؤمنُ في أربعِ زوجاتٍ.. وفي يومِ القيامهْ.. الملايينُ التي لا تلتقي بالخبزِ.. إلا في الخيالِ والتي تسكنُ في الليلِ بيوتاً من سعالِ.. أبداً.. ما عرفتْ شكلَ الدواءْ.. تتردّى.. جُثثاً تحتَ الضياءْ.. في بلادي.. حيثُ يبكي الساذجونْ ويموتونَ بكاءْ كلّما طالعهم وجهُ الهلالِ ويزيدونَ بكاءْ كلّما حرّكهم عودٌ ذليلٌ.. و"ليالي".. ذلكَ الموتُ الذي ندعوهُ في الشرقِ.. "ليالي".. وغناءْ في بلادي.. في بلادِ البُسطاءْ.. حيثُ نجترُّ التواشيحَ الطويلهْ.. ذلكَ السلُّ الذي يفتكُ بالشرقِ.. التواشيحُ الطويلهْ شرقُنا المجترُّ.. تاريخاً.. وأحلاماً كسولهْ وخُرافاتٍ خوالي.. شرقُنا، الباحثُ عن كلِّ بطولهْ في (أبي زيدِ الهلالي)..
القصيدة.. ذلك المجهولليس من السهل مراقبة القصيدة وهي تتشكل. والشاعر الذي يحاول أن يتأمل حركة أصابعه على الورقة، يشبه سائق الدراجة الذي يتأمل حركة قدميه فيرتبك.. ويفقد توازنه.. والشاعر الذي يدّعي أنه يعرف كيف تتحرك المياه في عوالمه الجوانيّة، يجهل حقيقة اللعبة.. وأنا أعترف هنا بكل صدق، أنني أكتب كما أسوق سيارتي، دون أن أعرف شيئا عن ميكانيكية الكتابة، أو عن ميكانيك السيارات. ركوب الطائرة متعة. ولكن التفكير بألوف المعادلات الحسابية التي تشيلها إلى ارتفاع 33 ألف قدم.. يفسد متعة الرحلة. وركوب القصيدة شيء مشابه. وقد علمتني تجربتي الشعرية أن لا أفكر كثيرا بالحقائب، وتذاكر السفر، وتأشيرات الخروج، وأسماء الفنادق التي سأقيم فيها. فما يهمني هو الرحيل نفسه. أعترف أيضا أنني لا أفكر بقصيدتي سابقا. قد يكون لديّ شيء أقوله، ولكنني لا أعرف ما هو.. رأس الشاعر كبطن المرأة.. مجاهيل مغلقة تمتلئ بمخلوقات لا نستطيع تحديد ماهيّتها، وجنسيتها، وجنسها.. لذلك يصعب عليّ أن أتحدث عن ميكانيكية القصيدة وطريقة تشغيلها.. فليس في لعبة الشعر قواعد عامة، وإن كان فيها بعض الاجتهادات الشخصية. فيما يتعلق بي تأتيني القصيدة – أول ما تأتي – بشكل جملة غير مكتملة، وغير مفسّرة. تضرب كالبرق وتختفي كالبرق. لا أحاول إمساك البرق. بل أتركه يذهب، مكتفيا بالإضاءة الأولى التي يحدثها. أرجع للظلام، وأنتظر التماع البرق من جديد. قد يطول انتظاري له وقد يقصر. ولكنني لا أحاول أبدا استحداث برق صناعي. ومن تجمع البروق وتلاحقها، تحدث الإنارة النفسية الشاملة، وأبدأ العمل على أرض واضحة. وفي هذه المرحلة فقط، أستطيع أن أتدخل اراديا في مراقبة القصيدة، ورؤيتها بعقلي وبصيرتي، وممارسة النقد الذاتي عليها. في المرحلة الأولى أكون محكوما، وفي المرحلة الثانية أصبح حاكما. وبكلمة أوضح، في المرحلة الأولى أكون مرئيا.. وفي الثانية أكون رائيا. تجيئني القصيدة بشكل مباغت. أحيانا تدخل عليّ وأنا في المقهى، وأحيانا تركب معي الأوتوبيس، وأحيانا تشد معطفي وأنا أجتاز الشارع. فهي إذن حاضرة قبل حضورها.. ولا تنتظر سوى الفرصة المناسبة لتفتح الباب وتدخل.. طبعا، أنا أفكر فيها، ولكن التفكير فيها، لا يقدم ولا يؤخر في زمان حضورها. هناك قصائد – كقصيدتي حبلى – ظللت أفكر فيها عشر سنوات.. ولم تحضر إلا في السنة الحادية عشرة.. هوايتي المفضلة هي الجلوس أمام ورقة نظيفة أنتظر السمك الذي قد يحمله البحر. قد يجيء السمك في يوم، أو أسبوع، أو شهر.. أو قد لا يجيء. فأخلاق السمك وأخلاق القصائد متشابهة. والمطلوب ممن يحب الأسماك الجميلة أن يصبر.. لأن البحر دائما يكافئ الصابرين. إذن كيف أكتب؟ كل من دخل مكتبي في بيروت.. يرى دائما أوراقا ملونة أمامي.. على إحداها كلمة.. وعلى الثانية كلمتان.. وعلى الثالثة لا شيء. التحديق في فراغ الورقة يثيرني.. ويمنحني الأمل. وكما يجلس طفل على حافة بركة.. ينتظر قدوم السمك.. أجلس أنا على حافة الورقة أراقب ارتعاش خيط الصنارة.. إنني شاعر غير مستعجل.. ولا أستعمل وسائل غير أخلاقية لرشوة السمك. من هذا الكلام أريد أن أصل إلى نقطتين رئيسيتين: 1- القصيدة هي التي تتقدم إلى الشاعر ليكتبها لا العكس. وبتعبير آخر ليس الشاعر هو الذي يكتب القصيدة وانما هي التي تكتبه. 2- حضور القصيدة على الورق متأخر جدا على زمن تكونها الحقيقي. وشكلها الأخير – أي الشكل الذي نقرؤه – هو المحطة الأخيرة التي يصل اليها القطار بعد سفر طويل قد يصل إلى ألوف السنين الشمسية. من أين يأتي الشعر؟ يخطئ الشاعر حين يظن أنه يكتب قصيدته وحده. هذا وهم كبير. انني أشعر أحيانا أن البشرية كلها، والتاريخ بكل امتداده الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي، وكذلك الأحياء والأموات.. يشتركون في كتابة قصيدتي. أكيد أنني أحاول أن أنفي ارتباطاتي التاريخية والوراثية والقبلية والثقافية وأدّعي الحرية والتفرّد. وأكيد أنني أحاول أن أتبرّأ من المؤثرات اللاحقة لولادتي، ولكن ماذا أفعل بالمؤثرات النفسية والعضوية السابقة لولادتي، وهي كالوشم العميق لا تُمحى ولا تُمسح. اللغة مثلا، قميص جاهز لاستيعاب أجساد كل أطفال العشيرة. إنها جزء من التركة القومية، ومن الوصية المقدسة التي لا يمكن مخالفتها. وكذلك طرائق التفكير، والتعبير، ومنطق النظر إلى الحياة والأشياء والانفعال بها. كلما قمصان معلّقة في خزانة التاريخ، وتبحث عمن ترتديه.. طبعا يستطيع بعض المشاغبين من أطفال الأسرة أن يُضربوا عن ارتداء ملابس أشقائهم الكبار، ويستطيعون أن يقصّوا.. ويفصّلوا.. ويعدّلوا القمصان التاريخية على مساحة أجسادهم.. ولكن القماش يبقى قماشا.. والخيوط القطنية، والأزرار.. والبطانة.. تبقى هي.. هي.. كل هذا يدل على أن القصيدة لا تنتمي مئة بالمئة إلى زمان كتابتها فقط، ولكنها تنتمي إلى زمان مركّب يمد جذوره طولا وعرضا في أعماق الأرض.. وماذا عن عملية الكتابة نفسه؟ كيف تبدأ.. وكيف تنمو.. وكيف تنتهي؟ علاقة القصيدة بالورقة التي أكتب عليها.. علاقة فيها ملامح كثيرة من لعبة الجنس. فهي تبدأ كما تبدأ كل العلاقات الجسدية، برغبة في احتلال مساحة لا نعرفها، من اقليم لا نعرفه.. الورقة أمامي جسد لا أعرفه. فراغ بارد يبحث عمّن يغطيه، ومرفأ مفتوح لكل البحّارة، ولكل صيادي اللؤلؤ.. الورقة، كأية امرأة، يجب أن تتقن أصول اللعبة، وتعرفَ قواعد الصيد واجتذاب الفرائس.. الورقة الملونة بالنسبة لي، فخ أقع فيه بسهولة، والورقة الوردية تثيرني كما يتهيّج الثور الاسباني.. أمام همجية اللون الأحمر. حضور القصيدة، يتوقف إذن، على شطارة الورقة.. وعلى استعدادها النفسي والجسدي لتقبل العشق.. أحيانا أشعر أن الورقة مستعدة، فأمارس الحب معها بنجاح.. وأحيانا كثيرة أشعر أن الورقة لا تريد. فألبس ثيابي وأنصرف.. كل شيء يمكن اغتصابه في العالم الا الأوراق. حين تبدأ القصيدة في ملامسة جسد الورقة، تبدأ مترددة، ومتلعثمة، وخائفة من الفشل. ففي عملية الإبداع، كما في عملية الجنس، لا بد من التعرف على طبيعة الأرض التي نمشي عليها، ولا بد من حدوث الإلفة، والملاءمة، والصعود تدريجيا إلى حالة النيرفانا. القصيدة وهي في طريقها لتصبح قصيدة، لا تفكر بشيء، ولا تخطط لأي شيء.. إنها تنفجر كالألعاب النارية في كل الجهات، وتأخذ أشكالا غير متوقعة. أنا لا أستطيع حين أكتب، أن أعرف إلى أين ستجرّن القصيدة، ولا حجم المفاجآت التي تنتظرني معها.. تحت كلم كلمة يختبئ لغم. ووراء كل فاصلة ينتظرنا مجهول جديد، واللغة نفسها تسحبنا في بعض الأحيان وراءها، كما تسحب الخيول جرّافات الثلج..
إفادة في محكمة الشعر
ألقيت في مهرجان الشعر التاسع ببغداد عام 1969 مرحباً يا عراقُ، جئتُ أغنّيكَ وبعـضٌ من الغنـاءِ بكـاءُ مرحباً، مرحباً.. أتعرفُ وجهاً حفـرتهُ الأيّـامُ والأنـواءُ؟ أكلَ الحبُّ من حشاشةِ قلبي والبقايا تقاسمتـها النسـاءُ كلُّ أحبابي القدامى نسَـوني لا نُوارَ تجيـبُ أو عفـراءُ فالشفـاهُ المطيّبـاتُ رمادٌ وخيامُ الهوى رماها الـهواءُ سكنَ الحزنُ كالعصافيرِ قلبي فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ أنا جرحٌ يمشي على قدميهِ وخيـولي قد هدَّها الإعياءُ فجراحُ الحسينِ بعضُ جراحي وبصدري من الأسى كربلاءُ وأنا الحزنُ من زمانٍ صديقي وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ مرحباً يا عراقُ،كيفَ العباءاتُ وكيفَ المها.. وكيفَ الظباءُ؟ مرحباً يا عراقُ.. هل نسيَتني بعدَ طولِ السنينِ سامـرّاءُ؟ مرحباً يا جسورُ يا نخلُ يا نهرُ وأهلاً يا عشـبُ.. يا أفياءُ كيفَ أحبابُنا على ضفةِ النهرِ وكيفَ البسـاطُ والنـدماءُ؟ كان عندي هـنا أميرةُ حبٍّ ثم ضاعت أميرتي الحسـناءُ أينَ وجهٌ في الأعظميّةِ حلوٌ لو رأتهُ تغارُ منهُ السـماءُ؟ إنني السندبادُ.. مزّقهُ البحرُ و عـينا حـبيبتي المـيناءُ مضغَ الموجُ مركبي.. وجبيني ثقبتهُ العواصـفُ الهـوجاءُ إنَّ في داخلي عصوراً من الحزنِ فهـل لي إلى العـراقِ التجاءُ؟ وأنا العاشـقُ الكبيرُ.. ولكـن ليس تكفي دفاتـري الزرقـاءُ يا حزيرانُ.ما الذي فعلَ الشعرُ؟ وما الذي أعطـى لنا الشعراءُ؟ الدواوينُ في يدينا طـروحٌ والتعـابيرُ كـلُّها إنـشاءُ كـلُّ عامٍ نأتي لسوقِ عكاظٍ وعـلينا العمائمُ الخضـراءُ ونهزُّ الرؤوسَ مثل الدراويشِ ..و بالنار تكتـوي سـيناءُ كـلُّ عامٍ نأتي.. فهذا جريرٌ يتغنّـى.. وهـذهِ الخـنساءُ لم نزَل، لم نزَل نمصمصُ قشراً وفلسطـينُ خضّبتها الـدماءُ يا حزيرانُ.. أنـتَ أكـبرُ منّا وأبٌ أنـتَ مـا لـهُ أبـناءُ لـو ملكـنا بقيّـةً من إباءٍ لانتخـينا.. لكـننا جـبناءُ يا عصـورَ المعلّـقاتِ ملَلنا ومن الجسـمِ قد يملُّ الرداءُ نصفُ أشعارنا نقوشٌ ومـاذا ينفعُ النقشُ حين يهوي البناءُ؟ المقاماتُ لعبةٌ.. والحـريريُّ حشيشٌ.. والغولُ والعـنقاءُ ذبحتنا الفسيفساءُ عصـوراً والدُّمى والزخارفُ البلـهاءُ نرفضُ الشعرَ كيمياءً وسحراً قتلتنا القصيـدةُ الكيـمياءُ نرفضُ الشعرَ مسرحاً ملكياً من كراسيهِ يحرمُ البسـطاءُ نرفضُ الشعرَ أن يكونَ حصاناً يمتطـيهِ الطـغاةُ والأقـوياءُ نرفضُ الشعـرَ عتمـةً ورموزاً كيف تستطيعُ أن ترى الظلماءُ؟ نرفضُ الشعـرَ أرنباً خشـبيّاً لا طمـوحَ لـهُ ولا أهـواءُ نرفضُ الشعرَ في قهوةِ الشعر.. دخـانٌ أيّامـهم.. وارتخـاءُ شعرُنا اليومَ يحفرُ الشمسَ حفراً بيديهِ.. فكلُّ شـيءٍ مُـضاءُ شعرنا اليومَ هجمةٌ واكتشافٌ لا خطوطَ كوفيّـةً، وحِداءُ كلُّ شعرٍ معاصرٍ ليـسَ فيهِ غصبُ العصرِ نملةٌ عـرجاءُ ما هوَ الشعرُ إن غدا بهلواناً يتسـلّى برقصـهِ الخُـلفاءُ ما هو الشعرُ.. حينَ يصبحُ فأراً كِسـرةُ الخبزِ –هَمُّهُ- والغِذاءُ وإذا أصبـحَ المفكِّـرُ بُـوقاً يستوي الفكرُ عندها والحذاءُ يُصلبُ الأنبياءُ من أجل رأيٍ فلماذا لا يصلبَ الشعـراءُ؟ الفدائيُّ وحدهُ.. يكتبُ الشعرَ و كـلُّ الذي كتبناهُ هـراءُ إنّهُ الكاتـبُ الحقيقيُّ للعصـرِ ونـحنُ الحُـجَّابُ والأجـراءُ عنـدما تبدأُ البنادقُ بالعـزفِ تمـوتُ القصـائدُ العصـماءُ ما لنا؟ مالنا نلـومُ حـزيرانَ و في الإثمِ كـلُّنا شـركاءُ؟ من هم الأبرياءُ؟ نحنُ جميـعاً حامـلو عارهِ ولا اسـتثناءُ عقلُنا، فكرُنا، هزالُ أغانينا رؤانا، أقوالُـنا الجـوفـاءُ نثرُنا، شعرُنا، جرائدُنا الصفراءُ والحـبرُ والحـروفُ الإمـاءُ البطـولاتُ موقفٌ مسرحيٌّ ووجـوهُ الممثلـينَ طـلاءُ وفلسـطينُ بينهم كمـزادٍ كلُّ شـارٍ يزيدُ حين يشـاءُ وحدويّون! والبلادُ شـظايا كـلُّ جزءٍ من لحمها أجزاءُ ماركسيّونَ! والجماهيرُ تشقى فلماذا لا يشبـعُ الفقـراءُ؟ قرشيّونَ! لـو رأتهم قريـشٌ لاستجارت من رملِها البيداءُ لا يمـينٌ يجيرُنا أو يسـارٌ تحتَ حدِّ السكينِ نحنُ سواءُ لو قرأنا التاريخَ ما ضاعتِ القدسُ وضاعت من قبـلها "الحمـراءُ".. يا فلسطينُ، لا تزالينَ عطـشى وعلى الزيتِ نامتِ الصحـراءُ العباءاتُ.. كلُّها من حريـرٍ واللـيالي رخيصـةٌ حمـراءُ يا فلسطينُ، لا تنادي عليهم قد تساوى الأمواتُ والأحياءُ قتلَ النفطُ ما بهم من سجايا ولقد يقتـلُ الثـريَّ الثراءُ يا فلسطينُ، لا تنادي قريشاً فقريشٌ ماتـت بها الخيَـلاءُ لا تنادي الرجالَ من عبدِ شمسٍ لا تنادي.. لم يبـقَ إلا النساءُ ذروةُ الموتِ أن تموتَ المروءاتُ ويمشـي إلى الـوراءِ الـوراءُ مرَّ عامـانِ والغزاةُ مقيمـونَ و تاريـخُ أمـتي.. أشـلاءُ مـرَّ عامانِ.. والمسيـحُ أسيرٌ في يديهم.. ومـريمُ العـذراءُ مرَّ عامـانِ.. والمآذنُ تبكـي و النواقيـسُ كلُّها خرسـاءُ أيُّها الراكعونَ في معبدِ الحرفِ كـفانا الـدوارُ والإغـماءُ مزِّقوا جُبَّةَ الدراويشِ عـنكم واخلعوا الصوفَ أيُّها الأتقياءُ اتركـوا أولياءَنا بسـلامٍ أيُّ أرضٍ أعادها الأولياءُ؟ في فمي يا عراقُ.. مـاءٌ كـثيرٌ كيفَ يشكو من كانَ في فيهِ ماءُ؟ زعموا أنني طـعنتُ بـلادي وأنا الحـبُّ كـلُّهُ والـوفاءُ أيريدونَ أن أمُـصَّ نـزيفي؟ لا جـدارٌ أنا ولا ببـغاءُ! أنـا حريَّتي.. فإن سـرقوها تسقطِ الأرضُ كلُّها والسماءُ ما احترفتُ النِّفاقَ يوماً وشعري مـا اشتـراهُ الملـوكُ والأمراءُ كلُّ حرفٍ كتبتهُ كانَ سـيفاً عـربيّاً يشـعُّ منهُ الضـياءُ وقليـلٌ من الكـلامِ نقـيٌّ وكـثيرٌ من الكـلامِ بغـاءُ كم أُعاني مما كتبـتُ عـذاباً ويعاني في شـرقنا الشـرفاءُ وجعُ الحرفِ رائعٌ.. أوَتشكو للـبسـاتينِ وردةٌ حمـراءُ؟ كلُّ من قاتلوا بحرفٍ شجاعٍ ثم ماتـوا.. فإنـهم شهداءُ لا تعاقب يا ربِّ من رجموني واعفُ عنهم لأنّـهم جهلاءُ إن حبّي للأرضِ حبٌّ بصيرٌ وهواهم عواطـفٌ عمياءُ إن أكُن قد كويتُ لحمَ بلادي فمن الكيِّ قد يجـيءُ الشفاءُ من بحارِ الأسى، وليلِ اليتامى تطلـعُ الآنَ زهـرةٌ بيضاءُ ويطلُّ الفداءُ شمـساً عـلينا ما عسانا نكونُ.. لولا الفداءُ من جراحِ المناضلينَ.. وُلدنا ومنَ الجرحِ تولدُ الكـبرياءُ قبلَهُم، لم يكن هـناكَ قبـلٌ ابتداءُ التاريخِ من يومِ جاؤوا هبطوا فوقَ أرضـنا أنبياءً بعد أن ماتَ عندنا الأنبياءُ أنقذوا ماءَ وجهنا يومَ لاحوا فأضاءت وجوهُنا السوداءُ منحونا إلى الحـياةِ جـوازاً لم تكُـن قبلَهم لنا أسمـاءُ أصدقاءُ الحروفِ لا تعذلوني إن تفجّرتُ أيُّها الأصـدقاءُ إنني أخزنُ الرعودَ بصدري مثلما يخزنُ الرعودَ الشتاءُ أنا ما جئتُ كي أكونَ خطيباً فبلادي أضاعَـها الخُـطباءُ إنني رافضٌ زماني وعصـري ومن الـرفضِ تولدُ الأشـياءُ أصدقائي.. حكيتُ ما ليسَ يُحكى و شـفيعي.. طـفولتي والنـقاءُ إنني قـادمٌ إليكـم.. وقلـبي فـوقَ كـفّي حمامـةٌ بيضـاءُ إفهموني.. فما أنا غـيرُ طـفلٍ فـوقَ عينيهِ يسـتحمُّ المـساءُ أنا لا أعرفُ ازدواجيّةَ الفكرِ فنفسـي.. بحـيرةٌ زرقـاءُ لبلادي شعري.. ولستُ أبالي رفضته أم باركتـهُ السـماءُ..
الحبّ لا يقف على الضوء الأحمرلا تفكر أبـدا .. فالضوء أحمر .. لا تكلم أحدا .. فالضوء أحمر لا تجادل في نصوص الفـقهِ .. أو في النحو .. أو في الصرف .. أو في الشعر .. أو في النثر .. إن العقل ملعونٌ، ومكروهٌ، ومنكر.. لا تغادر .. ُقـنَّـكَ المختوم بالشمع .. فإن الضوءَ أحمر لا تحب امرأة .. أو فأرة .. إن الضوء أحمر .. لا تـضاجع حائطا .. أو حجرا .. أو مقعـدا .. إن ضوء الجنس أحمر .. ابق سِـرّيا .. ولا تكشف قراراتك حتى لذبابة .. ابق اُميّـا .. ولا تـدخـُـل شريكا في الزنى أو في الكتابة .. فالزنى في عصرنا .. أهون من جرم الكتابة.. لا تفكر بعصافير الوطن .. وبأشجار .. وأنهار .. وأخبار الوطن .. لا تفكر بالذين اغتصبوا شمس الوطن .. إن سيف القمع يأتيك صباحا في عناوين الجريدة .. وتفاعيل القصيدة .. وبقايا قهوتِـك لا تنم بين ذراعي زوجتك .. إن زُوّارك عند الـفـجر موجودون تحت الكـَنَـبَـة.. لا تطالع كتبا في النقد أو في الفلسفة إن زوارك عند الفجر .. مزروعون مثل السوس في كل رفـوف المكتبة .. ابق في برميلك المملوءِ نملاً .. وبعوضا .. وقمامة.. ابق من رجليك مشنوقا إلى يوم القيامة .. ابق من صوتك مشنوقا إلى يوم القيامة .. ابق من عقلك .. مشنوقا إلى يوم القيامة .. ابق في البرميل .. حتى لا ترى وجه هذي الأمةِ المغتصبَـة .. أنتَ لو حاولت أن تذهب للسلطان .. أو زوجتهِ .. أو صِـهرهِ .. أو كلبهِ المسؤول عن أمن البلاد .. والذي يأكل أسماكا .. وتفاحا .. وأطفالا .. كما يأكل من لحم العباد .. لوجدت الضوءَ أحمر .. أنتَ لو حاولت أن تقرأ يوما نشرة الطقس .. وأسماء الوفيات .. وأخبار الجرائم .. لوجدت الضوء أحمر .. أنت لو حاولت أن تسأل عن سعر دواء الربو .. أو أحذية الأطفال .. أو سعر الطماطم .. لوجدت الضوء أحمر .. أنت لو حاولت أن تقرأ يوما صفحة الأبراج .. كي تعرف ما حظك قبل النفط .. أو حظك بعد النفط .. أو تعرف ما رقمك ما بين طوابير البهائم .. لوجدت الضوء أحمر .. أنت لو حاولت .. أن تبحث عن بيتٍ من الكرتون يأويكَ .. أو سيدةٍ ـ من بقايا الحرب ـ ترضى أن تــُـسلـّـيكَ.. وعن نهدين معطوبين .. أو ثلاجةٍ مستعمله .. لوجدت الضوء أحمر .. أنت لو حاولت .. أن تسأل أستاذك في الصف .. لماذا؟ يتسلى عرب اليوم بأخبار الهزائم ؟ ولماذا عرب اليوم زجاجٌ فوق بعضٍ يتكسر ؟ لوجدت الضوء أحمر .. لا تسافـر بجواز عربي .. لا تسافـر مرة أخرى لأوروبا فـأوروبا ـ كما تعلم ـ ضاقـت بجميع السفهاء .. أيها المنبوذُ .. والمشبوه .. والمطرود من كل الخرائط أيها الديك الطعين الكبرياء .. أيها المقتول من غير قـتال .. أيها المـذبوحُ من غير دماء .. لا تسافر لبلاد الله .. إن الله لا يرضى لقاء الجبناء.. لا تسافر بجواز عربي .. وانـتظر كالجرذ في كل المطارات، فإن الضوء أحمر .. لا تقل باللغة الفصحى .. أنا مروان ُ.. أو عدنان .. أو سحبان للبائعة الشقراءِ في ( هارودز ) إن الإسم لا يعني لها شيئا .. وتاريخك ـ يا مولاي ـ تـــاريخ مزوّر .. لا تفاخر بـبطولاتك في ( الليدو) فسوزان ُ.. وجانين .. وكوليت .. وآلاف الفرنسيات .. لم يقرأن يوما قصة الزير وعنتر .. يا صديقي : أنت تبدو مضحكا في ليل باريس .. فـَـعُـد فورا إلى الفندق .. إن الضوء أحمر .. لا تسافـر .. بجواز عربي بين أحياء العرب !! فهم من أجل قرشٍ يقتلونك .. وهم ـ حين يجوعون مساءً ـ يأكلونك لا تكن ضيفا على حاتم طيّ فهو كذاب ٌ.. ونصاب .. فلا تخدعك آلاف الجواري .. وصناديق الذهب .. يا صديقي : لا تـَــسِر وحدك ليلا بين أنياب العرب .. أنت في بيتك محدود الإقامة .. أنت في قومك مجهول النسب .. يا صديقي : رحم الله العرب !!.
من قتل الإمام ؟
ـ 1 ـ من قتل الإمام ؟ المخبرون يملأون غرفتي من قتل الإمام ؟ أحذية الجنود فوق رقبتي من قتل الإمام ؟ من طعن الدرويش صاحب الطريقة و مزق الجبة .. و الكشكول .. و المسبحة الأنيقة يا سادتي : لا تقلعوا أظافري .. بحثا عن الحقيقة في جثة القتيل .. دوما .. تسكن الحقيقة . ـ 2 ـ من قتل الإمام ؟ عساكر بكامل السلاح يدخلون .. عساكر بكامل السلاح يخرجون .. محاضر .. آلات تسجيل .. مصورون .. يا سادتي .. ما النفع من إفادتي ؟ ما دمتم ـ إن قلت أو ما قلت ـ سوف تكتبون ما تنفع استغاثتي ؟ ما دمتم ـ إن قلت أو ما قلت ـ سوف تضربون ما دمتم ... منذ حكمتم بلدي عني تفكرون .. ـ 3 ـ لست شيوعيا ـ كما قيل لكم ـ يا سادتي الكرام و لا يمينيا كما قيل لكم ـ يا سادتي الكرام .. مسقط رأسي في دمشق الشام هل واحد من بينكم ؟ يعرف أين الشام ؟ هل واحد من بينكم ؟ أدمن سكنى الشام ؟ رواه ماء الشام كواه عشق الشام تأكدوا يا سادتي .. لن تجدوا .. في أسواق الورود وردة كالشام و في دكاكين الحُلي جميعها لؤلؤة كالشام لن تجدوا حزينة العينين .. مثل الشام ـ 4 ـ لست عميلا قذرا ـ كما يقول مخبروكم ـ سادتي الكرام و لا سرقت قمحة و لا قتلت نملة و لا دخلت مركز بوليس .. يوما .. سادتي الكرام يعرفني في حارتي الصغير و الكبير يعرفني الأطفال و الأشجار و الحمام و أنبياء الله يعرفونني عليهم الصلاة و السلام الصلوات الخمس لا أقطعها يا سادتي الكرام و خطبة الجمعة لا تفوتني يا سادتي الكرام و غير ثديي زوجتي لا أعرف الحرام من ربع قرن و أنا أمارس الركوع و السجود أمارس القيام و القعود أمارس التشخيص خلف حضرة الإمام يقول : ( اللهم امحق دولة اليهود ) أقول : ( اللهم امحق دولة اليهود ) يقول : ( اللهم شتت شملهم ) أقول : ( اللهم شتت شملهم ) يقول : ( اللهم اقطع نسلهم ) أقول : ( اللهم اقطع نسلهم ) يقول : ( اعزق حرثهم و زرعهم ) أقول : ( اعزق حرثهم و زرعهم ) و هكذا يا سادتي الكرام قضيت عشرين سنة .. أعيش في حضيرة الأغنام أعلف كالأغنام أنام كالأغنام أبول كالأغنام أدور كالحبة في مسبحة الإمام أعيد كالببغاء ، كل ما يقول حضرة الإمام لا عقل لي .. لا رأس .. لا أقدام .. أستنشق الزكام من لحيته و السل من العظام قضيت عشرين سنة مكوما .. كرزمة القش على السجادة الحمراء أُجلد كل جمعة بخطبة غراء أبتلع البيان ، و البديع ، و القصائد العصماء أبتلع الهراء .. عشرين عاما .. و أنا يا سادتي أسكن في طاحونة ما طحنت ـ قط ـ سوى الهواء .. ـ 5 ـ يا سادتي ! بخنجري هذا الذي ترونه طعنته .. في صدره و الرقبة طعنته .. في عقله المنخور مثل الخشبة طعنته باسم أنا و اسم الملايين من الأغنام يا سادتي أعرف أن تهمتي عقابها الإعدام لكنني قتلت إذا قتلته كل الصراصير التي تنشد في الظلام و المسترخين على أرصفة الأحلام قتلتُ إذا قتلته كل الطفيليات في حديقة الإسلام كل الذين يطلبون الرزق .. من دُكَّانَةِ الإسلام قتلت إذا قتلته يا سادتي الكرام كل الذين منذ ألف عام يزنون بالكلام ..
من قتل مدرس التاريخ ؟
بغدادمُـدّي بسـاطيَ وامـلأي أكوابي وانسي العِتابَ فقد نسَـيتُ عتابي عيناكِ، يا بغـدادُ ، منـذُ طفولَتي شَـمسانِ نائمَـتانِ في أهـدابي لا تُنكري وجـهي ، فأنتَ حَبيبَتي وورودُ مائدَتي وكـأسُ شـرابي بغدادُ.. جئتُـكِ كالسّـفينةِ مُتعَـباً أخـفي جِراحاتي وراءَ ثيـابي ورميتُ رأسي فوقَ صدرِ أميرَتي وتلاقـتِ الشّـفَتانُ بعدَ غـيابِ أنا ذلكَ البَحّـارُ يُنفـِقُ عمـرَهُ في البحثِ عن حبٍّ وعن أحبابِ بغدادُ .. طِرتُ على حريرِ عباءةٍ وعلى ضفائـرِ زينـبٍ وربابِ وهبطتُ كالعصفورِ يقصِدُ عشَّـهُ والفجـرُ عرسُ مآذنٍ وقِبـابِ حتّى رأيتُكِ قطعةً مِـن جَوهَـرٍ ترتاحُ بينَ النخـلِ والأعـنابِ حيثُ التفتُّ أرى ملامحَ موطني وأشـمُّ في هذا التّـرابِ ترابي لم أغتـربْ أبداً .. فكلُّ سَحابةٍ بيضاءُ ، فيها كبرياءُ سَـحابي إن النّجـومَ السّـاكناتِ هضابَكمْ ذاتُ النجومِ السّاكناتِ هِضابي بغدادُ.. عشتُ الحُسنَ في ألوانِهِ لكنَّ حُسـنَكِ لم يكنْ بحسـابي ماذا سـأكتبُ عنكِ يا فيروزَتي فهـواكِ لا يكفيه ألـفُ كتابِ يغتالُني شِـعري، فكلُّ قصـيدةٍ تمتصُّني ، تمتصُّ زيتَ شَبابي الخنجرُ الذهبيُّ يشربُ مِن دَمي وينامُ في لَحمي وفي أعصـابي بغدادُ.. يا هزجَ الخلاخلِ والحلى يا مخزنَ الأضـواءِ والأطيابِ لا تظلمي وترَ الرّبابةِ في يـدي فالشّوقُ أكبرُ من يـدي ورَبابي قبلَ اللقاءِ الحلـوِ كُنـتِ حبيبَتي وحبيبَتي تَبقيـنَ بعـدَ ذهـابي
عزفٌ منفردٌ على الطبلة
أعلى
المتنبي و أم كلثوم على قائمة التطبيع
أعلى
حوار مع ملك المغول
أعلى
الحاكم و العصفورأتجول في الوطن العربي لا أقرأ شعري للجمهور فأنا مقتنع أن الشعر رغيف يخبز للجمهور و أنا مقتنع ـ منذ بدأت ـ بأن الأحرف أسماك وبأن الماء هو الجمهور أتجول في الوطن العربي وليس معي إلا دفتر يرسلني المخفر للمخفر يرميني العسكر للعسكر و أنا لا أحمل في جيبي إلا عصفور لكن الضابط يوقفني ويريد جوازا للعصفور تحتاج الكلمة في وطني لجواز مرور أبقى ملحوشا ساعات منتظرا فَرَمَانَ المأمور أتأمل في أكياس الرمل ودمعي في عيني بحور و أمامي كانت لافتة تتحدث عن ( وطن واحد ) تتحدث عن ( شعب واحد ) و أنا كالجرد هنا قاعد أتقيأ أحزاني .. و أدوس جميع شعارات الطبشور و أظل على باب بلادي مرميا .. كالقدح المكسور .
أعلى
الـثَّـقـب
أعلى
الخطاب
أعلى
القصيدة ُ والغولفي هذا الزمان اللامعقول أصبحنا نجلس ـ حتى نكتبَ ـ بـين شفاه الغول . ونـغـني .. بـيـن عبوس العبد الأسود .. والسيف المسلول.. لا نعرف في أي اللحظات ستــُفصل عنا رقـبـتـنا وبأي لسان سوف نقول .. في هذا الزمن المرعب.. صار الواحد منا يخشى من أدوات الأمر، ويخشى من أدوات النهي، ويخشى الفـاعل والمفعـول في هذا الزمن الأسود .. أصبح قول الشعر مغامرة نحو المجهول لا يعرف فيها .. اسم القاتـل ِ .. من اسم المقـتول .. في الزمن اليابس حيث تموت عصافيـر .. وحقول وتموت من الإحباط خيول في زمن النصر الكاذب حيث الحربُ زماميـر .. وطبول في زمن الحَملِ الكاذب .. والتمثـيـل على الشعب المقهور في زمن الكذب على ذقن الجمهور .. في زمن يرفض الشاعر مسح الجوخ .. وسكب العطر على جسد المسؤول لا يبقى أي خيار عند الشاعر إلا القبر ..أوالسيـلُول .. في هذا الزمن اللامعقول لابد لـنا ..لابد لـنا .. من قـتل الغول ..
الكلمات..بين أسنان رجال المخابرات ..وأخيرا .. شرَّفوني . كان قلبي دائما ينـبـئـني .. أنهم آتون .. كي يعتـقلوا الكلمة .. أو يعتـقلوني .. ولذا .. ما فاجأوني . كسروا أبواب بـيـتي في جنيـفٍ لوثوا ثـلج سويسرا .. ومراعيها .. وأسراب الحمام .. وتحد وا وطن الحب، وإنجـيل السلام . وضعوا شِعري بأكياسٍ .. فهل شاهدتم ؟ دولة تسرق عطر الياسمين يالها من غزوةٍ مضحكـةٍ سرقوا حبري، وأوراقي، ولم.. يسرقوا النار تحت جبـيـني إنـني أسكن في ذاكرة الشعب .. فما هَـمَّ ..إذا هُـمْ سرقوني ؟؟.. وأخيرا .. دخلوا غرفة نومي .. واستـبـاحوا حرماتي بعثروا أغطيـتي .. شمشموا أحذيـتـي .. فتحوا أدويـتي .. دَلقوا محبرتي .. رقصوا فوق بياض الصفحات . أيُّ عصرٍ عربيٍّ ؟ ذلك العصر الذي أفتى بقـتل الكلمات ؟ أي عصر معدني ؟ ذلك العصر الذي يفزع من صوت العصافيـر، وشَـدْوِ القـُبرا تِ . أي عصر لايسمى؟ ذلك العصر الذي يحبسنا خلف أسوار اللغات . أي عصر ماضَـويٍّ ..فوضوي ..بدوي.. قبلي .. سُـلطوي . دموي ؟. ذلك العصر الذي يطلق النار علينا ثم يرمي جثـث الـكُـتـّـاب .. في قعر الدَواةِ ؟؟ وأخيـرا .. بَـلَّـغوني .. أنهم كانوا هنا .. فلماذا بـلّغوني ؟ إنني أعرف بالفطرة أصوات بساطير ِ العساكر .. وأنا أعرف بالفطرة، أوصاف، وأحجام، وأسماء الخناجر .. جَهّزوا جيشا خرافيـا لكي يقـتحموا عزلـة شاعر .. تركوا خلفهم الروم ..لكي يعلنوا الحرب على ريشةِ طائر .. قدموا من آخر العالم، حتى يسرقوا بعض الدفاتر .. آهِ ..كم هم أغبـياء . حين ظنوا أنهم يقـتـلون الشعر أن هم قـتـلوني .. لم أكن أعرف ما حجمي .. إلى أن هاجموني ذات ليلة .. فتـأكدت بأني.. شاعر يُـرعِبُ دولة.. وأخيرا ..شرفوني لم يكونوا من بلاد البَـاسكِ .. أو من جـيش إيـرلندا .. ولا هم من عصابات شيكاغو .. إنـني أعرف من هم غُـرمائي .. فلماذا أرسلوا خلفي كلاب الصيد كي تـنـهشـني ؟ هل كلاب الصيد صارت .. تـتسلى عنـدنا في أكل لحم الشعراء ؟؟ إنهم يدرون أن الشعر عندي .. هو فن الكبرياء وهم يدرون أن لا أحد نـفـضَ الغَـبـرَة عن كعب حذائي .. وهم يدرون أني .. لم أُقـدّم لسوى الله ولائي .. وأخيرا .. شرفوني . حاولوا أن يفـتحوا ثـقبا بتاريخي وأن يكسروا أنف غروري . نـبـشوا أصلي . وفصلي . وجذوري . نثـروا قطن مِخداتي .. وناموا في سريري. قرأوا كل رسالة.. وبـيانات المصارف . بحثـوا عن بئر نفطٍ .. كنت قـد خبأته تحت الشراشف !! حاولوا أن يجدوني واقفا في طوابـير العمالة .. أعميلٌ أجنبيّ ؟ بعدما حفر الحزن دروبا في جـبـيـني أعميل أجنبـي ؟. بعدما قدمت روحي.. للملايـين .. وقدمت عيـوني .. حاولوا أن يمسكوني .. وأنا أرهن في السوق السياسي، ثيابي .. حاولوا أن يضبطوني .. وأنا أقـبض أتعابي على بـيت من الشعر كتـبـتـه.. أو يُــسمّون إماما واحدا كنـت قصدته .. حاولوا أن يجدوا لي صورة، وأنا أرقص في ديوان كسرى . أو أصب الخمر في عرس ثريٍّ .. أو أمير .. لم أكن يوما من الأيام طبالا.. ولا زوّرت شعري .. وشعوري .. كان شعري دائما أكبر من كل كـبـيـر .. ليس عندي ذهب .. أو فضةٌ .. فرصيدي هو قلبي .. وضميري ..
قراءة ثانية في مقدمة ابن خلدونهذا هو التاريخ، يا صديقتي من غير ما تعليق وكل ما قرأت عن سيرتنا العطرة من كرم.. ونجدة.. و نخوة.. و العفو عند المقدرة.. ليس سوى تلفيق.. وكل ما سمعته من قصص الشهامة وعن سجايا حاتم وعن حكايا عنترة.. لم يبق شيء منه في المفكرة وكل ما سمعت عن حروبنا المظفرة وكرنا.. و فرنا.. وارضنا المحررة.. ليس سوى تلفيق.. هذا هو التاريخ، يا صديقتي فنحن منذ أن توفى الرسول سائرون في جنازة.. ونحن، منذ مصرع الحسين سائرون في جنازة.. ونحن، من يوم تخاصمنا على البلدان.. والنسوان.. والغلمان.. في غرناطة موتى، ولكن ما لهم جنازة !! لا تثقي، بما روى التاريخ، يا صديقتي فنصفه هلوسة.. ونصفه خطابة.. أطفالنا، ليس لهم طفولة سماؤنا، ليس بها سحابة نساؤنا.. ما زلن في ثلاجة الخليفة عشاقنا.. يستنشقون وردة الكآبة كتابنا، يحاولون القفز كالفئران من مصيدة الرقابة.. لا تثقي، يا صديقتي بكل ما تقوله الحكومة فعزفها مكرر.. وصوتها نشاز.. المخبرون.. كسروا عظامنا وشعبنا.. يمشي على عكاز.. صديقة العمر التي.. اقرأ في عيونها المأساة صديقة العمر التي تقتسم المنفى معي.. والحزن .. والشتات.. نحن شعوب تجهل الفرح أطفالنا ما شاهدوا في عمرهم قوس قزح.. هذي بلاد أقفلت أبوابها.. و ألغت التفكير عند شعبها و ألغت الإحساس.. هذي بلاد تطلق النار على الحمام.. والغمام.. والاجراس.. ما طار طير عندنا.. إلا انذبح.. ولا تغنى شاعر بشعره.. إلا انذبح.. هذي بلاد .. ما بها مسيرة تمشي.. ولا ذبابة تطير من حي.. إلى حي.. ولا أمسية شعرية تعطي.. ولا أعراس.. هذي بلاد نصفها زنزانة ونصفها حراس.. تزوج الموتى نساء بعضهم فأين راح الناس؟ تقول لي سائحة شقراء من فرنسا: بلادكم اجمل ما شاهدت من بلدان فالماء فيها ضاحك.. والورد فيها ضاحك.. والخوخ.. والرمان.. والياسمين عندكم، يمشط الشعر على الحيطان.. فكيف في بلادكم لا يضحك الإنسان؟؟
شقة مفروشة !
القصيدة تطرح أسئلتها
أعلى
اليوميّات السِرية لقصيدةٍ عربيّةإذا سمعنا شاعرا .. يقرأ، في أمسيةٍ شعريةٍ، أشعاره قــُلنا له : ( أحسنت يا مطربنا الكبير ).. اعقد على خَصرك شالا أحمرا .. وارقص لنا، آخر ما كتبـتَ .. ياشاعرنا الشهيـر . أرقص لنا .. أرقص لنا .. فنحن قومٌ لا يعرفون الفرقَ بين دِقة الخصر .. وبـيـن دِقة التعبـيـر إذا رأينا شاعرا يفتح فوق مِنبَـرٍ شِـريانـهُ مبشرا بوردة التغيـير قلنا له : نريد أن ُتسمِعَنَا ( طقطوقة ً ) جديدة ً تـنـقـذنا من صحوة الضميـر كأنما وظيـفـة الشاعر أن يخدر العقـلَ .. وأن يعطل التفكير .. إذا رأينا شاعرا ينـزف من جناحه كطائر الكنار من أول الليـل، إلى ولادة النهار قلنا له : ( ما صار ) .. قلنا له : ( ما صار ) .. لابد أن تموت فوق أضلع القـيـثار لابد أن تموت يا مِـهيَـار فليس في التاريخ من قصيدةٍ عظيمةٍ لم تحترق بالنار .. إذا رأينا شاعرا يلفظ فوق منبرٍ أنفاسه في قاعةٍ ..تكـتـظ بالسعـال، والتصفيـق، والصفيـر .. قلنا له : أعِـد .. أعِـد.. يا صاحب الحنجرة الحريـر . أعـد .. أعـد .. فما شبـعـنـا طربـا ولا اشتركنا، في طقوس موتـك المثـير .. يا عندليب الليـل .. ياشاعرنا الكبـير .. ونرفع الكؤوسَ نخب الشاعر الكبـير ونشرب الويسكيَّ حتى الرمق الأخير وعندما يفرغ من وصلتـهِ.. نطرُدُهُ .. ونأخذ القصيدة العَصماءَ للسرير ..
من أوراقي المجهولة..هناك أوراق في جواريري، لم أنشرها من قبل.. لا خوفا، ولا تقية، ولا رغبة في التنكر والتخفي. فأنا شاعر مكشوف على الجهات الأربع، كمنارة البحر، ولا يمكن لأحد أن يتهمني بالسرية، أو الباطنية. كما لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه شاهدني، على مدى خمسين عاما، متنكرا في الشارع العام، أو على ورق الكتابة.. كنت أرفض دائما أن أكون (شاعرا سريا)، أكتب قصائدي بالشيفرة أو بالحبر الأبيض. لأن السريّة كانت ضدّ طبيعتي، وكانت تعطيني صنعة (مخابراتيّة) لا تليق بعفويتي وطفولتي. لست مغرما بوضع الماكياج على وجهي.. أو على قصائدي.. فالماكياج الكثير هو مهنة الراقصات، والممثلات، ومذيعات التلفزيون. وعلى الشاعر الذي يحترم نفسه، ويحترم شعره، أن يظهر على المسرح بوجهه الطبيعي، وصوته الطبيعي. دون أن يلبس (البرّوكة) ويضع على عينيه الرموش الصناعية.. الكتابة هي مواجهة مكشوفة بالسلاح الأبيض. أما استعمال الملابس المستعارة، والأسماء المستعارة، والتواقيع المستعارة، فهو دوران، ومخاتلة، وهروب إلى الخطوط الخلفية. طبعا هناك كتّاب وشعراء غربيون وعرب كثيرون، استعاروا أقنعة تاريخية ليتكلموا بلسانها، وبالنيابة عنها، كمارك أنطونيو، وكليوبترا، وعنترة، وعبد الرحمن الداخل، ويوليوس قيصر، وقيس بن الملوح، وليلى العامرية، وعطيل، والحلاج، والحسين بن علي، وعمر الخيام..ولكنني شخصيا لم أعمد إلى هذا (الدوبلاج) الشعري، وفضّلت دائما أن أظهر على المسرح بوجهي الحقيقي، وصوتي الحقيقي. وعندما كتبت سيرتي الذاتية المطوّلة (قصتي مع الشعر) في السبعينات، كنت مقتنعا أن ما رويته عن رحلتي الشعرية كان نهاية الكلام.. وأنني عصرت نفسي عن آخرها، وفتحت كلّ صناديقي، فلم يبق في حوزتي ورقة واحدة لم أرسلها إلى المطبعة، ولم يبق في خزانتي بذلة أو ربطة عنق واحدة لم ألبسها في الحفلات العامة. لكنني بعد مرور ربع قرن على صدور (قصتي مع الشعر) بدأت أحس أن الشاعر لا يمكنه أن يقفل صنبور الماء بشكل اعتباطي، ويمنع مياه الذاكرة من التدفق. ولاسيما إذا كان هذا الشاعر لا يزال يحرث، ويزرع، ويقدم للناس في كل موسم فاكهة الشعر. لا يمكن للشاعر أن يتخذ قرارا منفردا بإقفال الستارة على المتفرجين الجالسين في المسرح، ويقول لهم: (مع السلامة.. انتهت الرواية)!.. الرواية لا يمكن أن تنتهي بهذه السهولة.. والأضواء لا يمكن أن تُطفأ بأمر من عامل الكهرباء.. وباب المسرح لا يمكن أن يغلق على الممثلين قبل أن ينتهوا من قراءة نصوصهم. إن السيرة الذاتية لشاعر ليست نصا مغلقا، ولا هي رواية تنتهي بزواج الأبطال أو موتهم.. فما دام الشاعر (يحيا) وما دامت هورمونات الكتابة تتكاثر وتتحرك، وتسافر في جسده، وما دام برق الشعر يضيء في رأسه وفي أصابعه.. فلا يمكننا التعامل معه كما نتعامل مع لمبة كهرباء محترقة.. أو مع سيارة فرغت بطاريتها. بتعبير آخر، لا يمكن حبس البحر في لوحة زيتية، لأن اللوحة لا يمكن أن تكون بالتأكيد نهاية البحر.. ورغم كوني شاعرا عاش خمسين عاما تحت دواليب المطبعة.. ورغم أن لحمي متناثر بي أسنان الصحافة العربية.. ورغم أن أسراري معروضة في محطات المترو.. وأكشاك بيع الجرائد.. فإنني أشعر أن حنفية الماء لم تنشف، وأن خريف الذاكرة لم يسقط كل الأوراق.. رغم كل هذا فأنا أشعر أن الفيلم الذي صورته في السبعينات أصبح اليوم، مع التقدم الخطير الذي طرأ على التقنيات البصرية والسمعية، فيلما من الماضي، وأنه لابد من إعادة تصويره، وإخراجه، من جديد على ضوء الحداثة السينمائية، والتسجيلات الصوتية البالغة الدقة (HI-FI). وهذا ما قرّرت أن أفعله، حتى تكتمل إضاءة اللوحة من جميع جوانبها، وعرضها في صالة حديثة، بحيث يتاح للأجيال العربية التي ولدت في السبعينات، أن تسمع قصة الشعر من فم الشاعر نفسه، لا من فم النقّاد إذا وجدوا.. إن عقل الكاتب مجهّز بآلاف الهوائيات التي تلتقط أدق الذبذبات. وعينه كالفيلم النيجاتيف في آلة التصوير، يلتقط ألوف التفاصيل الصغيرة. وما دام الكاتب يعيش.. ويكتب.. وينتج.. فإن عملية التصوير، والتحميض، والطبع في الغرفة السوداء، لا تتوقف.. إنني لا أمسك الكاميرا في نهايات هذا القرن، لأسجل آخر اللقطات الشعرية الممكنة.. لأن كل المؤشرات تدل على أن إنسان القرن الواحد والعشرين لن يتذكر ما هو الشعر.. ولن يرى نماذجه إلا في المتاحف.. عندما كنت في سن الثالثة عشرة، كان ضيوف أبي يسألونه: - " ما هي اهتمامات نزار؟ ما هي هواياته؟ ماذا يريد أن يكون؟.." فيجيبهم أبي بكل بساطة: -" ابني.. يريد أن يكون شاعرا.." فيتغير لون سائليه، ويتصبب العرق البارد من جباههم، فيلتفون إلى بعضهم قائلين: -" لاحول ولا قوة إلا بالله.. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.." كنت أسمع التعليقات الدراماتيكية، فأتصور أن الشعر والكارثة شيء واحد.. وأن عفريتا من العفاريت قد ركبني، ولا بد من أخذي إلى أحد الشيوخ الصالحين في حارتنا، ليكتب لي حجابا يشفيني من كوابيسي.. ويطرد العفاريت من رأسي.. كانت أمي مقتنعة بسلطة العفاريت.. وبقدرتهم على إيذائي.. لذلك كانت تلبس ملاءتها كل يوم، وتجرني من يدي إلى أقرب شيخ تعرفه، وتعطيه أساورها الذهبية.. ثمنا لطرد العفريت.. فيأخذ الشيخ الأساور.. ويتقاسمها مع العفريت.. أما أبي.. فلم يكن يخشى سلطة العفاريت.. ولكنه كان يخشى سلطة أمي!.. إن ربط الإبداع بالجنّ والعفاريت.. والأرواح الشريرة.. تكتيك عدواني مقصود.. غايته الترهيب والتخويف.. فالمتضرّرون من الشعر كثيرون،، والمتربصون به كثيرون، والخائفون منه كثيرون.. لأنه يدعو إلى تغيير الإنسان، وتغيير العالم.
فرجال الدين كانوا ضده.. والعلمانيون كانوا ضده.. وعندما بلغت الثلاثين، ونضجت تجربتي الشعرية، اكتشفت أن الشعر عمل من صناعة الإنسان وحده ولا علاقة له بالشياطين ولا بالملائكة. فالشياطين خبثاء.. وماكرون.. ودسّاسون.. يشعلون الفتن، ويحرضون على الحرب، ويتداخلون في الحياة الزوجية، ويحطمون أية علاقة جميلة بين حبيب وحبيبته.. وهذا يتنافى مع طهارة الشعر.. أما الملائكة فإنهم مشغولون بطهارتهم، ونظافتهم، وغسل أجسادهم بالصابون والكولونيا. كما إن حيادهم الجنسي لا يسمح لهم بقراءة قصيدة حب يكتبها رجل لامرأة.. واستيعاب مضمونها.. أي أن الملائكة جنس غير شعري.. لذلك لم يرد ذكرهم في أي أنطولوجيا شعرية، ولم نسمع عن ملاك واحد نزل إلى الأرض، وحضر أمسية شعرية!!.. إذن، فقد كانت مهمتي الأولى، حين بدأت الكتابة أن أحرر الشعر من كل السلطات غير البشرية، وعلى رأسها سلطة الملائكة وسلطة الشياطين. منذ بداياتي الأولى، اكتشفت أن الشعر هو كلام راق يصنعه الإنسان لتغيير مستوى الإنسان. لم يكن عندي أوهام ميتافيزيكية وفانتازية وتزينية حول الشعر، ولم أكن أعتبره لعبا لغويا صرفا لا غاية له سوى تحريك حجارة اللغة. لم أكن أؤمن بشعر لا ينفع ولا يضرّ، ولا بكتابة لا تغير الشرط الإنساني، ولا بشاعر لا يشارك في صياغة الوجدان العام، ولا بقصيدة لا تسهم في تأسيس حضارة.. ولا بخطاب لا يخاطب أحدا.. لم أكن أفكر في كتابة معلقة جديدة تضاف إلى المعلقات العشر، ولم أكن أريد أن أكتب لاميّة العرب.. أو بائية العرب.. أو رائية العرب.. كنت أريد فقط.. أن أكون وجدان العرب. هذا ما اشتغلت عليه خمسين عاما.. وأرجو أن أكون قد حققت شيئا من هذا الحلم العظيم. تحقيق مثل هذا الحلم الجميل، كان يحتاج إلى لغة ديمقراطية، لا أثر فيها للغرور، والتعالي، والتثاقف الكاذب.. لغة تفوح منها رائحة الأسواق القديمة، والمقاهي الشعبية، والحارات المعجونة بعرق الناس، وأنفاسهم، وأصواتهم، وأغانيهم المغسولة بماء العشق.. لغة لها طعم القرفة، واليانسون، والقهوة المغلية بحبّ الهال.. لغة تدق على أبواب الجيران.. وتسهر معهم، وتلعب الورق معهم، وتغني معهم، وترقص معهم، وتأكل البقلاوة وحلاوة السمسم معهم.. لغة تخلع نعليها وتجلس على الأرض.. لا على مقعد وثير من طراز لويس السادس عشر.. لغة تتكحل بها النساء.. وتتجمل بها العرائس.. ويشربها الأطفال مع الحليب قبل الذهاب إلى المدرسة.. لغة تطرح بين أيدي الناس، كالخبز الشعبي، دون تفريق بين المقتدرين والمحرومين، والدراويش والبورجوازيين، والمتعلمين وأنصاف المتعلمين.. والذكور والإناث، والأطفال والمسنين، ومن يحملون شهادة الدكتوراه.. ومن يحملون شهادة تطعيم ضد الجدري.. لغة تنتقل من طنجة إلى عدن.. ومن بيروت إلى حضرموت.. ومن دمشق إلى الكوفة.. ومن القاهرة إلى أم درمان.. دون أن يكون معها تأشيرة دخول، أو شهادة صحية تثبت خلوّها من جراثيم الانفصالية العربية!!.. عن هذه اللغة البعيدة والقريبة، والممكنة والمستحيلة، كنت أبحث.. وحين عثرت عليها بعد خمسين عاما، شعرت أنني عثرت على مفاتيح الجنة!!..
أعلى
أبو جهل يشتري (فليت ستريت)هل اختفت من لندن؟ باصاتها الجميلة الحمراء وصارت النوق التي جئنا بها من يثرب واسطة الركوب، في عاصمة الضباب؟ تسرب البدو إلى قصر بكنغهام وناموا في سرير الملكة والانجليز، لملموا تاريخهم.. وانصرفوا.. واحترفوا الوقوف -مثلما كنا- على الاطلال.. ها هم بنو تغلب.. في (سوهو) وفي (فيكتوريا).. يشمرون ذيل دشداشاتهم ويرقصون الجاز.. هل أصبحت انجلترا؟ تصحو على ثرثرة البدو.. وسمفونية النعال؟ هل أصبحت إنجلترا؟ تمشي على الرصيف، بالخف.. وبالعقال؟ وتكتب الخط من اليمين للشمال.. سبحانه مغير الأحوال!! عنترة .. يبحث طول الليل، عن رومية بيضاء كالزبدة.. أو مليسة الفخذين .. كالهلال يأكلها كبيضة مسلوقة من غير ملح - في مدى دقيقة- ويرفع السروال!! لم يبق في الباركات.. لا بط، ولا زهر، ولا أعشاب قد سرح الماعز في أرجائها وفرت الطيور سمائها وانتصر الذباب .. ها هم بنو عبس.. على مداخل المترو يعبون كؤوس البيرة المبردة.. وينهشون قطعة.. من نهد كل سيدة.. هل سقط الكبار من كتابنا في بورصة الريال؟ هل أصبحت إنجلترا عاصمة الخلافة؟ واصبح البترول يمشي ملكا.. في شارع الصحافة؟ جرائد.. جرائد.. جرائد.. تنتظر الزبون في ناصية الشارع، كالبغايا.. جرائد، جاءت إلى لندن، كي تمارس الحرية.. تحولت -على يد النفط- إلى سبايا.. جئنا لاوروبا.. لكي نشرب من منابع الحضارة جئنا.. لكي نبحث عن نافذة بحرية من بعدما سدوا علينا عنق المحارة جئنا.. لكي نكتب حرياتنا من بعد ان ضاقت على اجسادنا العبارة لكننا.. حين امتلكنا صحفا، تحولت نصوصنا إلى بيان صادر عن غرفة التجارة.. جئنا لاوروبا لكي نستنشق الهواء جئنا.. لكي نعرف ما الوانها السماء؟ جئنا.. هروبا من سياط القهر، والقمع، ومن اذى داحس والغبراء.. لكننا.. لم نتأمل زهرة جميلة ولم نشاهد مرة، حمامة بيضاء وظلت الصحراء في داخلنا.. وظلت الصحراء.. من كل صوب.. يهجم الجراد ويأكل الشعر الذي نكتبه.. ويشرب المداد من كل صوب.. يهجم (الايدز) على تاريخنا ويحصد الأرواح، والأجساد من كل صوب.. يطلقون نفطهم علينا ويقتلون اجمل الجياد.. فكاتب مدجن.. وكاتب مستأجر.. وكاتب يباع في المزاد هل صار زيت الكاز في بلادنا مقدسا؟ وصار للبترول في تاريخنا، نقاد؟ للواحد الأوحد.. في عليائه تزدان كل الأغلفة وتكتب المدائح المزيفة.. ويزحف الفكر الوصولي على جبينه ليلثم العباءة المشرفة.. هل هذه صحافة.. أم مكتب للصيرفة؟ كل كلام عندهم، محرم كل كتاب عندهم، مصلوب فكيف يستوعب ما نكتبه؟ من يقرأ الحروف بالمقلوب!! على الذي يريد أن يفوز في رئاسة التحرير.. عليه .. أن يبوس ركبة الأمير .. عليه.. أن يمشي على أربعة كي يركب الأمير!! لا يبحث الحاكم في بلادنا عن مبدع.. وانما يبحث عن أجير.. يعطي طويل العمر.. للصحافة المرتزقة مجموعة من الظروف المغلقة.. وبعدها.. ينفجر النباح.. والشتائم المنسقة.. ما لليساريين من كتابنا؟ قد تركوا (لينين) خلف ظهرهم وقرروا.. ان يركبوا الجمال!! جئنا لاوروبا.. لكي ننعم في حرية التعبير ونغسل الغبار عن اجسادنا ونزرع الاشجار في حدائق الضمير فكيف اصبحنا، مع الايام، طباخين.. في مضافة الاسكندر الكبير؟؟ كل العصافير التي كانت تشق زرقة السماء، في بيروت.. وتملأ الشجار والبيادر.. قد احرق البترول كبرياءها وريشها الجميل.. والحناجر.. فهي على سقوف لندن.. تموت.. يستعملون الكاتب الأجير.. في أغراضهم كربطة الحذاء.. وعندما يستنزفون حبره.. وفكره.. يرمونه في الريح، كالأشلاء.. هذا له زاوية يومية.. هذا له عمود.. والفارق الوحيد، فيما بينهم طريقة الركوع.. والسجود.. لا ترفع الصوت.. فأنت آمن ولا تناقش أبدا مسدسا.. او حاكما فردا.. فانت آمن.. وكن بلا لون، ولا طعم، ولا رائحة.. وكن بلا رأي.. ولا قضية كبرى.. فانت آمن.. واكتب عن الطقس وعن حبوب منع الحمل -إن شئت- فانت آمن.. هذا هو القانون في مزرعة الدواجن.. كيف ترى، نؤسس الكتابة؟ في مثل هذا الزمن الصغير والرمل في عيوننا والشمس من قصدير والكاتب الخارج عن طاعتهم يذبح كالبعير.. أيا طويل العمر: يا من تشتري النساء بالأرطال.. وتشتري الأقلام بالأرطال.. لسنا نريد اي شيئ منك.. فانكح جواريك كما تريد.. واذبح رعاياك كما تريد.. وحاصر الأمة بالنار.. وبالحديد.. لا أحد.. يريد منك ملكك السعيد.. لا أحد يريد أن يسرق منك جبة الخلافة.. فاشرب نبيذ النفط عن آخره.. واترك لنا الثقافة...
دعوة اصطياف للخامس من حزيرانفي ذكرى مرور خمس سنوات على نكسة حزيران 1967
المرحلة البيروتية
كانت بيروت في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، سيدة المدائن، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. كانت الكتابة فيها فرحا لا حدود له، وعرسا يوميا يشارك فيه البحر، والجبل، ورائحة الصنوبر، ورفيف القلوع البحرية على شاطئ فندق (السان جورج). في تلك المرحلة البيروتية الاستثنائية من عمر لبنان، وعمر المنطقة العربية، كنت أكتب بسرعة عصفور.. وأطير على أوراقي البيضاء برشاقة سمكة. ولا أتذكّر زمنا تبلّلت فيه بأمطار الشعر، وأصبحت أصابعي غايات من الورق الأخضر.. كهذا الزمن البيروتي الخرافي.. لم أكن أعاني من أية مشكلة.. فقد كانت مساحة الحرية في لبنان أكبر من مساحة أوراقنا.. ودفاترنا.. وأكبر من مساحة أحلامنا وتوقعاتنا.. كانت السماء تمطر.. والأصابع تمطر.. والقلب يمطر.. كنا نكتب على زرقة البحر، فيلتقط قصائدنا الصيادون على شواطئ جزيرة قبرص. وكنا نغني في زحلة فيزداد محصول العنب.. ونكتب على ثلج صنين فيشتعل الثلج بنار الشعر.. وكنا نرمي قصائد الحب إلى سمك (السلطان إبراهيم) فيقرر السكنى في لبنان، ويطلب الحصول على الجنسية اللبنانية. ولأن بيروت كانت أكبر من الحرية نفسها.. تفجَّرتْ. ولأنها أسرَفت في عرض جمالها، وأنوثتها، وتقاطيع جسدها الجميل، في منطقة تحكمها الذكورة، والشبق الجنسي، والعادات الجاهلية، والحرمان الثقافي.. دلقوا عليها البنـزين، وأحرقوها حيّة.. لقد كانت الجميلات عبر التاريخ يدفعن دائما ضريبة جمالهن.. فيقدّمن قرابين للنيل في مصر القديمة.. ويُدفنَّ مع أزواجهن في ضريح واحد في الهند، ويُوأدنَ تحت التراب في العصر الجاهلي إرضاءً للات والعُزَّى. وبيروت هي الموؤودة، والمحروقة، والمذبوحة، والمُغتصَبةُ على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.. لأن جسدها البرونزي الجميل كان تحديا يوميا لثيران المنطقة الهائجين!!. إذن فبيروت الخمسينات والستينات، كانت (دينامو) الشعر، والنثر، والصحافة، والنشر، والفنون التشكيلية، والمسرح، والإبداع بكل صوره. وفي هذه الورشة الثقافية الشهيرة كمصانع (بوينغ) و(دوغلاس) و(داسُّو) تدربنا نحن الشعراء العرب على حرية الطيران، وتعلمنا أصول الصنعة. وحين أنهينا فترة تدريبنا على طائرات الكونكورد اللبنانية، صار صعبا علينا أن نركب الطائرات الشراعية، أو الهيليكوبتر، أو طائرات الدول الاشتراكية من أنطوفوف، وتوبولوف، مع الاعتذار من الموسيقار العظيم رحمانينوف.. والروائي تشيكوف، وشاعر داغستان الكبير رسول حمزاتوف.. ان مشكلتنا مع الحرية اللبنانية أنها حرية ذات (ماركة مسجلة) غير قابلة للتقليد، مثل كونياك نابليون الفرنسي، والسجاد الإيراني، والويسكي السكوتلندي، والسيجار الكوبي، والكريستال التشيكوسلوفاكي.. فلماذا ذهبنا لنشتغل في ورشات أخرى، ومصانع جديدة، أُصبنا بالإحباط، وشعرنا أن أكثر منتجات الحرية في العالم هي من نوع الخُردة.. Second Hand. كما اكتشفنا أن الحريات في بلاد العالم الثالث هي مجرد براويز فارغة.. تتغير كل خمس دقائق.. هذه هي مشكلتي، ومشكلة كل الكتّاب والشعراء العرب، الذين أخذتهم بيروت في أحضانها، وأطعمتهم المنّ والسلوى، وعوّدتهم على أكل (مازات) الحرية.. بكل مذاقاتها، وأطباقها الخرافية. إذن فالحق كلّه يقع على بيروت.. لأنها لم تفرض علينا (ريجيما) ثقافيا قاسيا.. ولم تمنعنا من التهام صحون التبّولة.. ومناقيش الزعتر.. وعرائس اللبنة.. والكبّة النيّئة.. ومن قرقشة أصابع حبيباتنا مع اللوز الأخضر.. بعد هذا الدلع المفرط.. والدلال الذي لا حدود له.. لم نعد نعرف أي طعام نأكل.. وأي نبيذ نشرب.. وأي فندق نبيت فيه ليلتنا.. وأي منفى يشرب بقية أعمارنا.. بعد بيروت أغلقت كل المطاعم الثقافية أبوابها.. ولم يبق في العالم سوى مطعمي (ماكدونالد) و(كانتاكي شيكن).
فإما أن نأكل على الطريقة الأمريكية.. هذا التركيز على بيروت الثقافية، لا يعني أن بقية المدن اللبنانية كانت أقل ثقافة.. أو أقل عشقا للشعر.. فلقد عرفت لبنان الشاعر شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وزرعت في كل قرية لبنانية شتلة شعر.. أو شتلة حب.. تنقلت على الخريطة اللبنانية كلها، كما تنتقل العصافير، فلم يعترضني حاجز طائفي، أو حاجز حزبي.. أو حاجز عسكري.. كان لبنان كله يسمعني. ويحضنني، ويحتشد لحضور أمسياتي الشعرية، دون أن يسأل عن ديانتي، أو مذهبي، أو عقيدتي، أو انتمائي الفكري. أو هويتي.. هذا هو لبنان الحقيقي الذي عرفته، والذي كان في ثقافته أكبر من كل الطوائف، والمِلَل والنِحَل، والأحزاب، والأيديولوجيات.. حتى في أيام الرعب والقنص، والقتل على الهوية.. كنت أعبر الحواجز بين المنطقتين الغربية والشرقية.. دون أن يعترضني أي معترض.. ودون أن أقدّم هويتي للمقاتلين على الجانبين من خطوط التَمَاس. فقد كان الشعر هويتي التي يعترف بها كل المتحاربين.. وكانت مجموعاتي الشعرية موجودة خلف أكياس الرمل.. وبين البنادق، والخراطيش، والمعاطف الكاكيّة..ماذا يعني هذا الكلام؟ انه يعني بكل وضوح أن لبنان الحقيق هو لبنان الذي يقرأ الشعر.. لا لبنان الذي يحمل الكلاشينكوف!!. كما يعني أن الشعب اللبناني ليس بطبيعته شعبا مقاتلا بالفطرة.. كالهيكسوس، والفايكينغ، والجرمن، والمغول، والتتار، والأتراك. انه شعب جبران خليل جبران، وإيليا أبو ماضي، وميخائيل نعيمة، وخليل مطران، والياس أبي شبكة، وبشارة الخورة، وأمين نخلة، وشحرور الوادي.. وسعيد عقل، وعاصي الرحباني. شعب مصنوع من بحة الناي، وضوء القمر، وكبرياء المواويل، وعنفوان الدبكة.. لا من أسلحة الميليشيات.. وبنادق القنّاصين.. الانسان اللبناني ذو تلوين مائي.. وليس انسانا (كاكيّا) أو دمويا.. أو عدوانيا.. والفينيقيون، أجداد لبنان، فتحوا العالم بأساطيلهم البحرية، ولم يكونوا يحملون على مراكبهم خرطوشة واحدة.. أو سكين مطبخ.. كانوا يحملون معهم حريرا من الزُوق.. وكرزا من البقاع، ودرّاقا من بكفيا.. وخشبا من ضهور الشوير، وبقلاوة من صيدا.. وعَرَقا زحلاويا.. وحروفا أبجدية من جبيل.. وقناني ماء زهر من طرابلس.. فالحرب إذن ليست طبيعة لبنانية وراثية، وانما هي (طبيعة ثانية) اكتسبها اللبنانيون بالممارسة والتجريب وتبريم الشوارب.. والتنمير.. ولو تُرك اللبنانيون ليحلوا مشاكلهم، وينتزعوا أشواكهم بأيديهم.. لما استمرت الحرب اللبنانية أكثر من أسبوع.. ولكان بالإمكان تجنب الحرب.. على كأس عرق.. وطاولة زهر.. ونرجيلة من التبغ العجمي..
أربعُ رسائلَ ساذجة إلى بيروتالرسالة الأولى يا أصدقاء الحزن في بـيروت : كيف هي الأحوال ؟ نسألكم . ونحن ندري جيـدا سذاجة السؤال . نسألكم . ونحن كالأيتام في جنازة الجَمَالْ . الرسالة الثانية يا أصدقاء الجرح، في بـيروت ألم تبـيعوا قمرا .. لتـشتـروا زلزال ؟ ألم تبـيعوا السحب الزرقاءَ .. والقلوعَ .. والرمال .. ألم تبـيعوا الكرز الأحمر في غاباتكم والزعتر البري .. والوزّال ؟ ألم تبـيعوا ؟ شجر التفاح .. والعصفور .. والتـنور .. والـشلال ؟ ألم تبـيعوا وجع الـنـايات في جرودكم وزرقة الموال ؟ ألم تبـيعوا جَنـّة ً كي تسكنوا الأطلال ؟ الرسالة الثالثة يا أصدقاء الشعر، في بـيـروت ألم تبـيعوا آخر النجوم في سمائكم ؟ ألم تبـيعوا ؟ آخر الحروف في أسمائكم ألم تبـيعوا ؟ ما تـبقى من حلى نسائكم ألم تـبـيعوا البحر ؟ ألم تبـيـعوا للميـليـشيات التي تجلدكم آخر خيط من قميص الشِعر ؟ الرسالة الرابعة يا أصدقاء الصبر، في بـيـروت قولوا لنـا : في أي أرض يزرعون الصبر ؟ قوا لنا : هل ممكن أن تـنهض الوردة من فراشها ويستـفيـق العطر . هل ممكن أن ترجع الحروف من غربتها وأن يفيض الحبر . هل ممكن أن نستعيد عمرنا ؟ من بعد ما هُمْ شطبوا أجمل سطر في كتاب العمر ..
محاولة تــشكيـلية لرسم بيروتعندما ترجع بـيـروت إلـيـنا بالسلامة .. عندما ترجع بـيـروت التي نعرفها مثلما ترجع للدار الحمامة .. سوف نرمي في مياه البحر أوراق السفر .. وسنستأجر كرسيـيـن في بـيـت القمر .. وسنقضي الوقت، في زرع المواويل .. وفي زرع الشجر آهِ يا بيروت كم أتعبـنا هذا السفر . فاغمُريـنا .. بمكاتـيـب المحبـين .. اغمرينـا بـتـقاسيم العصافيـر .. اغمرينـا بمزاريب المطر .. عندما ترجع بـيـروتُ التي كانت ملاذا لهوانا . والتي قد أورقـت فيها من الحب يدانا . مثلما يرجـِعُ في الفجر الشراع . عندما ترجـِع بـيـروت .. فهل تأخذني ؟ يا صديقي، مرة أخرى، إلى سهل البقاع . حيث أغلى حلم ٍ عندي ( عَرُوسٌ من لبن ) .. آهِ .. كم كان جميلا إن يكون الحب إقليماً صغيرا من أقاليم الوطن .. هل من الممكن أن تطلع بـيروت الجميلة مرةً أخرى .. من الأرض الخراب ؟ هل من الممكن، أن ينبـتَ قمحٌ في مياه البحر، أو يأتي من الموج كتاب ؟ هل من الممكن أن نكتـب شعرا ؟ مرة أخرى .. إلى حبةِ لوزٍ أخضرٍ أو على قطن السحاب ؟ هل لدينا ؟ فرصة أخرى لكي نعشق .. أم أن العيون الخضر صارت مستحيلة ؟ والعيون السود صارت مستحيلة ؟ وإذا عاد إلينا ( شارع الحمراء ) لو عادت إلينا ( الرملـةُ البـيضاء ) لو عادت لنا .. ( منقوشة والزعتر ).. و ( الكورنيش ) .. لو عاد لنا ( مقهى دُبَـيْـبُـو) والمشاوير الطويلة .. لو فرضنا .. لو فرضنا .. أن بـيروت الجميلة نهضت من موتها ثانيـة ً من سيعطينـا مفاتـيـح الطفولة ؟
يا ست الدنيا يا بيروتيا ستَّ الدنيا يا بيروتْ.. مَنْ باعَ أساوركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟ من صادرَ خاتمكِ السّحريَّ، وقصَّ ضفائركِ الذهبيّةْ؟ من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضرواينْ؟ من شطبَ وجهكِ بالسّكّين، وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ؟ من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديّةْ؟ ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّةْ.. فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى (الحريّةْ).. ماذا نتكلّمُ يا بيروتُ.. وفي عينيكِ خلاصةُ حزنِ البشريّةْ وعلى نهديكِ المحترقين.. رمادُ الحربِ الأهليّةْ ماذا نتكلّمُ يا مروحةَ الصّيفِ، ويا وردتَهُ الجوريّةْ؟ من كانَ يفكّر أن نتلاقى - يا بيروتُ - وأنتِ خرابْ؟ من كانَ يفكّر أن تنمو للوردةِ آلافُ الأنيابْ؟ من كانَ يفكّر أنَّ العينَ تقاتلُ في يومٍ ضدَّ الأهدابْ؟ ماذا نتكلّم يا لؤلؤتي؟ يا سنبلتي.. يا أقلامي.. يا أحلامي.. يا أوراقي الشعريّةْ.. من أينَ أتتكِ القسوةُ يا بيروتُ، وكنتِ برقّةِ حوريّةْ؟ لا أفهمُ كيف انقلبَ العصفورُ الدوريُّ.. لقطّةِ ليلٍ وحشيّةْ.. لا أفهمُ أبداً يا بيروتْ لا أفهمُ كيف نسيتِ اللهَ.. وعُدتِ لعصرِ الوثنيّةْ.. قومي من تحتِ الموجِ الأزرقِ، يا عِشتارْ قومي كقصيدةِ وردٍ .. أو قومي كقصيدةِ نارْ لا يوجدُ قبلكِ شيءٌ.. بعدكِ شيءٌ.. مثلكِ شيءٌ.. أنتِ خلاصاتُ الأعمارْ.. يا حقل اللؤلؤِ.. يا ميناءَ العشقِ.. ويا طاووسَ الماءْ.. قومي من أجلِ الحبِّ، ومن أجلِ الشّعراءْ قومي من أجل الخبزِ، ومن أجلِ الفقراءْ الحبُّ يريدكِ.. يا أحلى الملكاتْ.. والربُّ يريدكِ.. يا أحلى الملكاتْ.. ها أنتِ دفعتِ ضريبةَ حسنكِ مثل جميعِ الحسناواتْ ودفعتِ الجزيةَ عن كلِّ الكلماتْ.. قومي من نومكِ.. يا سُلطانةُ، يا نوَّارةُ، يا قنديلاً مشتعلاً في القلبْ قومي كي يبقى العالمُ يا بيروتُ.. ونبقى نحنُ.. ويبقى الحبّْ.. قومي.. يا أحلى لؤلؤةٍ أهداها البحرْ الآن عرفنا ما معنى .. أن نقتلَ عصفوراً في الفجرْ الآنَ عرفنا ما معنى .. أن ندلقَ فوقَ سماءِ الصّيفِ زجاجةَ حبرْ الآن عرفنا .. أنّا كُنّا ضدَّ اللهِ .. وضدَّ الشّعرْ .. يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ .. يا حيثُ الوعدُ الأوّلُ .. والحبُّ الأوّلُ .. يا حيثُ كتبنا الشعرَ .. وخبّأناه بأكياسِ المُخملْ .. نعترفُ الآنَ .. بأنّا كُنّا يا بيروتُ، نُحبّكِ كالبدوِ الرُحّلْ .. ونُمارسُ فعلَ الحبِّ .. تماماً كالبدوِ الرُحَّلْ .. نعترفُ الآنَ .. بأنَّكِ كُنتِ خليلتنا نأوي لفراشكِ طولَ اللّيل .. وعندَ الفجرِ، نهاجرُ كالبدوِ الرُحَّلْ نعترفُ الآنَ .. بأنّا كُنّا أميّينَ .. وكُنّا نجهلُ ما نفعلْ .. نعترفُ الآنَ، بأنّا كُنّا مِن بينِ القَتَلَةْ .. ورأينا رأسكِ .. يسقطُ تحتَ صخورِ الرَوْشَةِ كالعصفورْ نعترفُ الآنَ .. بأنّا كُنّا - ساعةَ نُفِّذَ فيكِ الحُكمُ - شهودَ الزورْ .. نعترفُ أمامَ اللهِ الواحدِ .. أنّا كُنّا منكِ نغارُ .. وكانَ جمالكِ يؤذينا .. نعترفُ الآنَ .. بأنّا لم ننصفْكِ .. ولم نعذُرْكِ .. ولم نفهمْكِ .. وأهديناكِ مكانَ الوردةِ سِكّينا .. نعترفُ أمامَ اللهِ العادلِ .. أنّا راودناكِ .. وعاشرناكِ .. وضاجعناكِ .. وحمّلناكِ معاصينا .. يا ستَّ الدنيا، إن الدنيا بعدكِ ليستْ تكفينا .. الآنَ عرفنا .. أنَّ جذوركِ ضاربةٌ فينا .. الآنَ عرفنا .. ماذا اقترفتْ أيدينا .. اللهُ .. يفتّشُ في خارطةِ الجنّةِ عن لُبنانْ والبحرُ يفتّشُ في دفترهِ الأزرقِ عن لُبنانْ والقمرُ الأخضرُ .. عادَ أخيراً كي يتزوّجَ من لُبنانْ .. أعطيني كفّكِ يا جوهرةَ اللّيلِ، وزنبقةَ البلدانْ نعترفُ الآنَ .. بأنّا كُنّا ساديّينَ، ودمويّينَ .. وكُنّا وكلاءَ الشيطانْ يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ .. قومي من تحتِ الرَدمِ، كزهرةِ لوزٍ في نيسانْ قومي من حُزنكِ .. إنَّ الثورةَ تولدُ من رحمِ الأحزانْ قومي أكراماً للغاباتِ .. وللأنهارِ .. وللوديانِ .. قومي إكراماً للإنسانْ .. إنّا أخطأنا يا بيروتُ .. وجئنا نلتمسُ الغفرانْ .. ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتَ المجنونةْ .. يا نهرَ دماءٍ وجواهرْ .. ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتَ القلبِ الطيّبِ .. يا بيروتَ الفوضى .. يا بيروتَ الجوعِ الكافرِ .. والشّبعِ الكافرِ .. ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتَ العدلِ .. ويا بيروتَ الظلمِ .. ويا بيروتَ السّبْيِ .. ويا بيروتَ القاتلِ والشاعرْ .. ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتَ العشقِ .. ويا بيروتَ الذبحِ من الشّريانِ إلى الشّريانْ .. ما زلتُ أحبُّكِ رغمَ حماقاتِ الإنسانْ ما زلتُ أحبُّكِ يا بيروتُ .. لماذا لا نبتدئُ الآنْ؟
أعلى
بيروت محظيتكم .. بيروت حبيبتيسامحينا.. إن تركناكِ تموتينَ وحيدهْ .. وتسلّلنا إلى خارجِ الغرفةِ نبكي كجنودٍ هاربينْ سامحينا .. إن رأينا دمكِ الورديَّ ينسابُ كأنهارِ العقيقْ وتفرّجنا على فعلِ الزِنا .. وبقينا ساكتينْ .. آهِ .. كم كُنّا قبيحينَ، وكُنّا جُبناءْ .. عندما بعناكِ، يا بيروتُ، في سوقِ الإماءْ وحجزنا الشققَ الفخمةَ في حيِّ (الإليزيه) وفي (مايفير) لندنْ .. وغسلنا الحزنَ بالخمرةِ، والجنسِ، وقاعاتِ القِمارْ وتذكّرنا - على مائدةِ الروليتِ، أخبارَ الديارْ وافتقدنا زمنَ الدِفْلى بلُبنانِ .. وعصرَ الجُلَّنارْ .. وبكينا مثلما تبكي النساءْ .. آهِ .. يا بيروتُ، يا صاحبةَ القلبِ الذهبْ سامحينا .. إن جعلناكِ وقوداً وحَطبْ للخلافاتِ التي تنهشُ من لحمِ العربْ منذُ أن كانَ العربْ ! طمئنيني عنكِ .. يا صاحبةَ الوجهِ الحزينْ كيفَ حالُ البحرِ ؟ هل هم قتلوهُ برصاصِ القنصِ مثلَ الآخرينْ ؟ كيفَ حالُ الحبِّ ؟ هل أصبحَ أيضاً لاجئاً .. بين ألوفِ اللاجئينْ ؟ كيفَ حالُ الشعرِ ؟ هل بعدكِ - يا بيروتُ - من شعرٍ يُغنّى ؟ ذبَحَتنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى .. أفرغتْنا من معانينا تماماً .. بعثرتْنا في أقاصي الأرضْ .. منبوذينَ .. مسحوقينَ .. مَرضى .. مُتعبينْ .. جعلتْ منّا - خلافاً للنبوءاتِ .. يهوداً تائهينْ .. هذهِ المرّةُ .. لم يغدرْ بنا جيشُ إسرائيلْ .. لكنّا انتحرنا .. إصفحي، سيّدتي بيروتُ، عنّا نحنُ لم نهجركِ مختارينَ .. لكنّا قرِفنا .. من مراحيضِ السّياسة .. وملَلنا .. من ملوكِ السّيركِ .. والسيركِ .. وغشِّ اللاعبينْ وكفرنا.. بالدكاكينِ التي تملأُ أرجاءَ المدينةْ .. وتبيعُ الناسَ حقداً وضغينةْ .. وبطاطينَ .. وسجاداً .. وبنزيناً مهربْ .. آهِ يا سيّدتي كم نتعذّبْ .. عندما نقرأُ أنَّ الشّمس في بيروتَ، صارتْ كُرةً في أرجلِ المرتزقينْ .. ما الذي نكتبُ، يا سيّدتي ؟ نحنُ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ صَدَقنا .. ثمّ محكومونَ بالموتِ، إذا نحنُ كذبنا ماذا نكتبُ يا سيّدتي ؟ نحنُ لا نملكُ أن نحتجَّ .. أو نصرخَ .. أو نبصقَ .. أو نكشفَ عن خيبتنا .. أو نتمنّى .. أخرستنا هذهِ الحربُ التي من غيرِ معنى .. طلبوا منّا بأن ندخلَ في مدرسةِ القتلِ .. ولكنّا رفضنا .. طلبوا أن نشطرَ الربَّ لنصفينِ .. ولكنّا اختجلنا .. إننا نؤمنُ باللهِ .. لماذا جعلوا اللهَ هنا .. من غيرِ معنى ؟ طلبوا منّا بأن نشهدَ ضدَّ الحبِّ .. لكنْ ما شهدنا .. طلبوا منّا .. بأن نشتمَ بيروتَ التي قمحاً .. وحبّاً وحناناً .. أطعمَتْنا .. طلبوا .. أن نقطعَ الثديَ الذي من خيرهِ، نحنُ رضِعنا .. فاعتذرنا .. ووقفنا ضدَّ كلِّ القاتلينْ وبقينا مع لُبنانَ سهولاً .. وجبالا .. وبقينا مع لُبنانَ جنوباً .. وشمالا .. وبقينا مع لُبنانَ صليباً .. وهلالا .. وبقينا مع لُبنانَ الينابيعِ .. ولُبنانَ العناقيدِ .. ولُبنان الصبابةْ .. وبقينا مع لُبنانَ الذي علّمنا الشعرَ .. وأهدانا الكتابةْ آهِ يا سيّدتي بيروتْ .. لو جاءَ السّلامْ ورجعنا، كالعصافيرِ التي ماتتْ من الغُربةِ والبردِ .. لكي نبحثَ عن أعشاشنا بينَ الحُطامْ .. ولكي نبحثَ عن خمسينَ ألفاً .. قُتلوا من غيرِ معنى .. ولكي نبحثَ عن أهلٍ وأحبابٍ لنا ذهبوا من غيرِ معنى .. وبيوتٍ .. وحقولٍ .. وأراجيحَ .. وأطفالٍ .. وألعابٍ .. وأقلامٍ .. وكُرّاساتِ رسمٍ .. أُحرقتْ من غيرِ معنى .. آهِ .. يا سيّدتي بيروتْ .. لو جاءَ السلامْ ورجعنا .. كطيورِ البحرِ، مذبحوينَ شوقاً وحنينا وبنا شوقٌ إلى (منقوشةِ الزّعترِ) .. واللّيلِ .. ومَن كانوا يبيعونَ عقودَ الياسمينْ فمنَ الجائزِ، يا بيروتُ، أن لا تعرفينا .. قد تغيّرتِ كثيرا .. وتغيّرنا كثيرا .. وكبرنا نحنُ - في عامينِ - آلافَ السنينْ إحتملنا نفيَنا عشرينَ شهرا .. وشربنا دمعنا عشرينَ شهرا .. وبحثنا في زوايا الأرضِ عن عشقٍ جديدٍ غيرَ أنّا ما عشقنا .. وشربنا الخمرَ من كلِّ الدوالي .. غيرَ أنّا ما سكِرنا .. وبحثنا عن بديلٍ لكِ، يا أعظمَ بيروتَ .. ويا أطيبَ بيروتَ .. ويا أطهرَ بيروتَ .. ولكنْ ما وجدنا ورجعنا .. نلثمُ الأرضَ التي أحجارُها تكتبُ شعرا .. والتي أشجارُها تكتبُ شعرا .. والتي حيطانُها تكتبُ شعرا .. وأخذناكِ إلى الصّدرِ .. حقولاً .. وعصافيرَ .. وكورنيشاً .. وبحرا .. وصرخنا كالمجانينِ على سطح السّفينةْ : أنتِ بيروتْ .. ولا بيروتُ أخرى
المهرولونسقطتْ آخرُ جدرانِ الحياءْ وفرحنا.. ورقصنا.. وتباركنا يتوقيعِ سلامِ الجبناءْ لم يعد يرعبنا شيءٌ.. ولا يخجلنا شيءٌ فقد يبستْ فينا عروقُ الكبرياءْ.. سقطتْ.. للمرةِ الخمسينِ عذريّتنا.. دونَ أن نهتزَّ.. أو نصرخَ.. أو يرعبنا مرأى الدماءْ.. ودخلنا في زمانِ الهرولةْ.. ووقفنا بالطوابيرِ، كأغنامٍ أمامَ المقصلةْ وركضنا.. ولهثنا وتسابقنا لتقبيلِ حذاءِ القتلةْ.. جوَّعوا أطفالنا عشرينَ عاماً ورمَوا في آخرِ الصومِ إلينا.. بصلهْ.. سقطتْ غرناطةٌ - للمرّةِ الخمسينَ - من أيدي العربْ. سقطَ التاريخُ من أيدي العربْ. سقطتْ أعمدةُ الروحِ، وأفخاذُ القبيلة. سقطتْ كلُّ مواويلِ البطولة. سقطتْ إشبيليةْ.. سقطتْ أنطاكيةْ.. سقطتْ حطّينُ من غيرِ قتالٍ.. سقطتْ عموريَةْ.. سقطتْ مريمُ في أيدي الميليشياتِ فما من رجلٍ ينقذُ الرمزَ السماويَّ ولا ثمَّ رجولة.. سقطتْ آخرُ محظيّاتنا في يدِ الرومِ، فعنْ ماذا ندافع ؟ لم يعدْ في القصرِ جاريةٌ واحدةٌ تصنعُ القهوةَ.. والجنسَ.. فعن ماذا ندافع ْ؟؟ لم يعدْ في يدنا أندلسٌ واحدةٌ نملكها.. سرقوا الأبوابَ، والحيطانَ، والزوجاتِ، والأولادَ، والزيتونَ، والزيتَ، وأحجارَ الشوارعْ. سرقوا عيسى بنَ مريمْ وهوَ ما زالَ رضيعاً.. سرقوا ذاكرةَ الليمون.. والمشمشِ.. والنعناعِ منّا.. وقناديلَ الجوامعْ تركوا علبةَ سردينٍ بأيدينا تسمّى "غزّة" عظمةً يابسةً تُدعى "أريحا" فندقاً يدعى فلسطينَ.. بلا سقفٍ لا أعمدةٍ.. تركونا جسداً دونَ عظامٍ ويداً دونَ أصابعْ.. لم يعدْ ثمةَ أطلالٌ لكي نبكي عليها. كيفَ تبكي أمةٌ أخذوا منها المدامعْ؟ بعدَ هذا الغزلِ السريِّ في أوسلو خرجنا عاقرينْ.. وهبونا وطناً أصغرَ من حبّةِ قمحٍ.. وطناً نبلعهُ من غيرِ ماءٍ كحبوبِ الأسبرينْ!! بعدَ خمسينَ سنةْ.. نجلسُ الآنَ على أرضِ الخرابْ.. ما لنا مأوى كآلافِ الكلابْ!! بعدَ خمسينَ سنهْ ما وجدنا وطناً نسكنهُ إلا السرابْ.. ليسَ صُلحاً، ذلكَ الصلحُ الذي أُدخلَ كالخنجرِ فينا.. إنهُ فعلُ اغتصابْ!!.. ما تفيدُ الهرولةْ ؟ ما تفيدُ الهرولةْ ؟ عندما يبقى ضميرُ الشعبِ حياً كفتيلِ القنبلةْ.. لن تساوي كلُّ توقيعاتِ أوسلو.. خردلةْ!!.. كم حلمنا بسلامٍ أخضرٍ.. وهلالٍ أبيضٍ.. وببحرٍ أزرقَ.. وقلوعٍ مرسلهْ.. ووجدنا فجأةً أنفسنا.. في مزبلةْ!! من تُرى يسألهم عن سلامِ الجبناءْ؟ لا سلامِ الأقوياءِ القادرينْ. من تُرى يسألهم عن سلامِ البيعِ بالتقسيطِ..؟ والتأجيرِ بالتقسيطِ.. والصفقاتِ.. والتجّارِ والمستثمرينْ؟ وتُرى يسألهم عن سلامِ الميتينْ؟ أسكتوا الشارعَ.. واغتالوا جميعَ الأسئلةْ.. وجميعَ السائلينْ.. وتزوّجنا بلا حبٍّ.. من الأنثى التي ذاتَ يومٍ أكلتْ أولادنا.. مضغتْ أكبادنا.. وأخذناها إلى شهرِ العسلْ.. وسكِرنا ورقصنا.. واستعَدنا كلَّ ما نحفظُ من شعرِ الغزلْ.. ثمَّ أنجبنا، لسوءِ الحظِّ، أولاداً معاقينَ لهم شكلُ الضفادعْ.. وتشرّدنا على أرصفةِ الحزنِ، فلا من بلدٍ نحضنهُ.. أو من ولدْ!! لم يكُن في العرسِ رقصٌ عربيٌّ أو طعامٌ عربيٌّ أو غناءٌ عربيٌّ أو حياءٌ عربيٌّ فلقد غابَ عن الزفّةِ أولادُ البلدْ.. كانَ نصفُ المهرِ بالدولارِ.. كانَ الخاتمُ الماسيُّ بالدولارِ.. كانتْ أجرةُ المأذونِ بالدولارِ.. والكعكةُ كانتْ هبةً من أمريكا.. وغطاءُ العرسِ، والأزهارُ، والشمعُ، وموسيقى المارينزْ.. كلُّها قد صنعتْ في أمريكا!! وانتهى العرسُ.. ولم تحضرْ فلسطينُ الفرحْ. بلْ رأت صورتها مبثوثةً عبرَ كلِّ الأقنيةْ.. ورأتْ دمعتها تعبرُ أمواجَ المحيطْ.. نحوَ شيكاغو.. وجيرسي.. وميامي.. وهيَ مثلَ الطائرِ المذبوحِ تصرخْ: ليسَ هذا العرسُ عرسي.. ليسَ هذا الثوبُ ثوبي.. ليسَ هذا العارُ عاري.. أبداً.. يا أمريكا.. أبداً.. يا أمريكا.. أبداً.. يا أمريكا..
معركة الخليجمضحكة مبكية معركة الخليج فلا النصال انكسرت على النصال ولا الرجال نازلوا الرجال ولا رأينا مرة آشور بانيبال فكل ما تبقى لمتحف التاريخ اهرام من النعال !! من الذى ينقذنا من حالة الفصام؟ من الذى يقنعنا بأننا لم نهزم؟ ونحن كل ليلة نرى على الشاشات جيشا جائعا وعاريا.. يشحذ من خنادق العداء (ساندويشة) وينحنى .. كي يلثم الأقدام !! لا حربنا حرب ولا سلامنا سلام جميع ما يمر في حياتنا ليس سوى أفلام زواجنا مرتجل وحبنا مرتجل كما يكون الحب في بداية الأفلام وموتنا مقرر كما يكون الموت في نهاية الأفلام !! لم ننتصر يوما على ذبابة لكنها تجارة الأوهام فخالد وطارق وحمزة وعقبة بن نافع والزبير والقعقاع والصمصام مكدسون كلهم.. في علب الأفلام هزيمة .. وراءها هزيمة كيف لنا أن نربح الحرب إذا كان الذين مثلوا وصوروا .. وأخرجوا تعلموا القتال في وزارة الإعلام !! في كل عشرين سنة يأتى إلينا حاكم بأمره ليحبس السماء في قارورة ويأخذ الشمس إلى منصة الإعدام! في كل عشرين سنة يأتى إلينا نرجسى عاشق لذاته ليدعى بأنه المهدى .. والمنقذ والنقى .. والتقى.. والقوى والواحد .. والخالد ليرهن البلاد والعباد والتراث والثروات والأنهار والأشجار والثمار والذكور والإناث والأمواج والبحر على طاولة القمار.. في كل عشرين سنة يأتى إلينا رجل معقد يحمل في جيوبه أصابع الألغام ليس جديدا خوفنا فالخوف كان دائما صديقنا من يوم كنا نطفة في داخل الأرحام هل النظام في الأساس قاتل؟ أم نحن مسؤولون عن صناعة النظام ؟ إن رضى الكاتب أن يكون مرة .. دجاجة تعاشر الديوك أو تبيض أو تنام فاقرأ على الكتابة السلام !! للأدباء عندنا نقابة رسمية تشبه في شكلها نقابة الأغنام !! ثمة ملوك أكلوا نساءهم في سالف الأيام لكنما الملوك في بلادنا تعودوا أن يأكلوا الأقلام مات ابن خلدون الذي نعرفه وأصبح التاريخ في أعماقنا إشارة استفهام !! هم يقطعون النخل في بلادنا ليزرعوا مكانه للسيد الرئيس غابات من الأصنام !! لم يطلب الخالق من عباده أن ينحتوا له مليون تمثال من الرخام !! تقاطعت في لحمنا خناجر العروبة واشتبك الإسلام بالإسلام بعد أسابيع من الإبحار في مراكب الكلام لم يبق في قاموسنا الحربي إلا الجلد والعظام طائرة الفانتوم تنقض على رؤسنا مقتلنا يكمن في لساننا فكم دفعنا غاليا ضريبة الكلام قد دخل القائد بعد نصره لغرفة الحمام ونحن قد دخلنا لملجأ الأيتام !! نموت مجانا كما الذباب في أفريقيا نموت كالذباب ويدخل الموت علينا ضاحكا ويقفل الأبواب نموت بالجملة في فراشنا ويرفض المسؤول عن ثلاجة الموتى بأن يفصل الأسباب نموت .. في حرب الشائعات وفى حرب الإذاعات وفى حرب التشابيه وفى حرب الكنايات وفى خديعة السراب نموت.. مقهورين .. منبوذين ملعونين .. منسيين كالكلاب والقائد السادي في مخبئه يفلسف الخراب !! في كل عشرين سنة يجيئنا مهيار يحمل في يمينه الشمس وفى شماله النهار ويرسم الجنات في خيالنا وينزل الأمطار وفجأة.. يحتل جيش الروم كبرياءنا وتسقط الأسوار !! في كل عشرين سنة يأتي امرؤ القيس على حصانه يبحث عن ملك من الغبار أصواتنا مكتومة .. شفاهنا مكتومة شعوبنا ليست سوى أسفار إن الجنون وحده يصنع في بلاطنا القرار نكذب في قراءة التاريخ نكذب في قراءة الأخبار ونقلب الهزيمة الكبرى إلى انتصار !! يا وطني الغارق في دمائه يا أيها المطعون في إبائه مدينة مدينة نافذة نافذة غمامة غمامة حمامة حمامة
السيرة الذاتية لسياف عربيأيها الناس: لقد أصبحت سلطانا عليكم فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدوني.. إنني لا أتجلى دائما.. فاجلسوا فوق رصيف الصبر، حتى تبصروني اتركوا أطفالكم من غير خبز واتركوا نسوانكم من غير بعل .. واتبعوني احمدوا الله على نعمته فلقد أرسلني كي أكتب التاريخ، والتاريخ لا يكتب دوني إنني يوسف في الحسن ولم يخلق الخالق شعرا ذهبيا مثل شعري وجبينا نبويا كجبيني وعيوني غابة من شجر الزيتون واللوز فصلوا دائما كي يحفظ الله عيوني أيها الناس: أنا مجنون ليلى فابعثوا زوجاتكم يحملن مني.. وابعثوا أزواجكم كي يشكروني شرف أن تأكلوا حنطة جسمي شرف أن تقطفوا لوزي وتيني شرف أن تشبهوني.. فأنا حادثة ما حدثت منذ آلاف القرون.. أيها الناس: أنا الأول والأعدل، والأجمل من بين جميع الحاكمين وأنا بدر الدجى، وبياض الياسمين وأنا مخترع المشنقة الأولى، وخير المرسلين.. كلما فكرت أن أعتزل السلطة، ينهانى ضميري من ترى يحكم بعدى هؤلاء الطيبين؟ من سيشفى بعدى الأعرج، والأبرص، والأعمى.. ومن يحيى عظام الميتين؟ من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر؟ من ترى يرسل للناس المطر؟ من ترى يجلدهم تسعين جلدة؟ من ترى يصلبهم فوق الشجر؟ من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر؟ ويموتوا كالبقر؟ كلما فكرت أن أتركهم فاضت دموعي كغمامة.. وتوكلت على الله .. وقررت أن أركب الشعب.. من الآن.. إلى يوم القيامة.. أيها الناس: أنا أملككم كما أملك خيلي .. وعبيدي وأنا أمشى عليكم مثلما أمشى على سجاد قصري فاسجدوا لي في قيامي واسجدوا لي في قعودي أولم أعثر عليكم ذات يوم بين أوراق جدودي ؟؟ حاذروا أن تقرأوا أي كتاب فأنا أقرأ عنكم.. حاذروا أن تكتبوا أي خطاب فأنا أكتب عنكم.. حاذروا أن تسمعوا فيروز بالسر فإني بنواياكم عليم حاذروا أن تدخلوا القبر بلا إذني فهذا عندنا إثم عظيم والزموا الصمت، إذا كلمتكم فكلامي هو قرآن كريم.. أيها الناس: أنا مهديكم، فانتظروني ودمى ينبض في قلب الدوالي، فاشربوني أوقفوا كل الأناشيد التي ينشدها الأطفال في حب الوطن فأنا صرت الوطن. إنني الواحد، والخالد ما بين جميع الكائنات وأنا المخزون في ذاكرة التفاح، والناي، وزرق الأغنيات ارفعوا فوق الميادين تصاويري وغطوني بغيم الكلمات واخطبوا لي أصغر الزوجات سناً.. فأنا لست أشيخ.. جسدي ليس يشيخ.. وسجوني لا تشيخ.. وجهاز القمع في مملكتي ليس يشيخ.. أيها الناس: أنا الحجاج إن أنزع قناعي تعرفوني وأنا جنكيز خان جئتكم.. بحرابي .. وكلابي.. وسجوني لا تضيقوا - أيها الناس - ببطشي فأنا أقتل كي لا تقتلوني... وأنا أشنق كي لا تشنقوني.. وأنا أدفنكم في ذلك القبر الجماعي لكيلا تدفنوني.. أيها الناس : اشتروا لي صحفا تكتب عنى إنها معروضة مثل البغايا في الشوارع اشتروا لي ورقا أخضر مصقولاً كأعشاب الربيع ومدادا .. ومطابع كل شئ يشترى في عصرنا .. حتى الأصابع.. اشتروا فاكهة الفكر .. وخلوها أمامي واطبخوا لي شاعرا، واجعلوه، بين أطباق طعامي.. أنا أمي.. وعندي عقدة مما يقول الشعراء فاشتروا لي شعراء يتغنون بحسنى.. واجعلوني نجم كل الأغلفة فنجوم الرقص والمسرح ليسوا أبدا أجمل مني فأنا، بالعملة الصعبة، أشتري ما أريد أشتري ديوان بشار بن برد وشفاه المتنبي، وأناشيد لبيد.. فالملايين التي في بيت مال المسلمين هي ميراث قديم لأبى فخذوا من ذهبي واكتبوا في أمهات الكتب أن عصري عصر هارون الرشيد.. يا جماهير بلادي: يا جماهير الشعوب العربية إنني روح نقى جاء كي يغسلكم من غبار الجاهلية سجلوا صوتي على أشرطة إن صوتي أخضر الإيقاع كالنافورة الأندلسية صوروني باسما مثل الجوكندا ووديعا مثل وجه المجدلية صوروني.. وأنا أفترس الشعر بأسناني.. وأمتص دماء الأبجدية صوروني بوقاري وجلإلي، وعصاي العسكرية صوروني.. عندما أصطاد وعلا أو غزالا صوروني.. عندما أحملكم فوق أكتافي لدار الأبدية يا جماهير الشعوب العربية.. أيها الناس: أنا المسؤول عن أحلامكم إذ تحلمون.. وأنا المسؤول عهن كل رغيف تأكلون وعن الشعر الذي - من خلف ظهري - تقرأون فجهاز الأمن في قصري يوافيني بأخبار العصافير .. وأخبار السنابل ويوافيني بما يحدث في بطن الحوامل أيها الناس: أنا سجانكم وأنا مسجونكم.. فلتعذروني إنني المنفى في داخل قصري لا أرى شمسا، ولا نجما، ولا زهرة دفلى منذ أن جئت إلى السلطة طفلا ورجال السيرك يلتفون حولي واحد ينفخ ناياً.. واحد يضرب طبلا واحد يمسح جوخاً .. واحد يمسح نعلا.. منذ أن جئت إلى السلطة طفلا.. لم يقل لي مستشار القصر (كلا) لم يقل لي وزرائي أبدا لفظة (كلا) لم يقل لي سفرائي أبدا في الوجه (كلا) لم تقل إحدى نسائي في سرير الحب (كلا) إنهم قد علموني أن أرى نفسي إلها وأرى الشعب من الشرفة رملا.. فأعذروني إن تحولت لهولاكو جديد أنا لم أقتل لوجه القتل يوما.. إنما أقتلكم .. كي أتسلى..
الممثلون
احترقَ المسرحُ مِن أركانِهِ
أعلى
رسالة جندي في جبهة السويسرسالة جندي في جبهة السويس الرسالة الأولى 29/10/1956 يا والدي! هذي الحروفُ الثائرة تأتي إليكَ من السويسْ تأتي إليكَ من السويسِ الصابرة إني أراها يا أبي، من خندقي، سفنُ اللصوصْ محشودةٌ عندَ المضيقْ هل عادَ قطّاعُ الطريقْ ؟ يتسلّقونَ جدارنا.. ويهدّدون بقاءنا.. فبلادُ آبائي حريقْ إني أراهم، يا أبي، زرقَ العيونْ سودَ الضمائرِ، يا أبي، زُرقَ العيونْ قرصانهم، عينٌ من البللورِ، جامدةُ الجفونْ والجندُ في سطحِ السفينةِ.. يشتمونَ.. ويسكرونْ فرغتْ براميلُ النبيذِ.. ولا يزالُ الساقطونْ.. يتوعّدونْ الرسالة الثانية 30/10/1956 هذي الرسالةُ، يا أبي، من بورسعيدْ أمرٌ جديدْ.. لكتيبتي الأولى ببدءِ المعركةْ هبطَ المظليّونَ خلفَ خطوطنا.. أمرٌ جديدْ.. هبطوا كأرتالِ الجرادِ.. كسربِ غربانٍ مُبيدْ النصفُ بعدَ الواحدةْ.. وعليَّ أن أُنهي الرسالةْ أنا ذاهبٌ لمهمّتي لأرُدَّ قطّاعَ الطريقِ.. وسارقي حرّيتي لكَ.. للجميعِ تحيّتي. الرسالة الثالثة 31/10/1956 الآنَ أفنَينا فلولَ الهابطينْ أبتاهُ، لو شاهدتَهم يتساقطونْ كثمارِ مشمشةٍ عجوزْ يتساقطونْ.. يتأرجحونْ تحتَ المظلاتِ الطعينةِ مثلَ مشنوقٍ تدلّى في سكونْ وبنادقُ الشعبِ العظيمِ.. تصيدُهم زُرقَ العيونْ لم يبقَ فلاحٌ على محراثهِ.. إلا وجاءْ لم يبقَ طفلٌ، يا أبي، إلا وجاءْ لم تبقَ سكّينٌ.. ولا فأسٌ.. ولا حجرٌ على كتفِ الطريقْ.. إلا وجاءْ ليرُدَّ قطّاعَ الطريقْ ليخُطَّ حرفاً واحداً.. حرفاً بمعركةِ البقاءْ الرسالة الرابعة 1/11/1956 ماتَ الجرادْ أبتاهُ، ماتتْ كلُّ أسرابِ الجرادْ لم تبقَ سيّدةٌ، ولا طفلٌ، ولا شيخٌ قعيدْ في الريفِ، في المدنِ الكبيرةِ، في الصعيدْ إلا وشاركَ، يا أبي في حرقِ أسرابِ الجرادْ في سحقهِ.. في ذبحهِ حتّى الوريدْ هذي الرسالةُ، يا أبي، من بورسعيدْ من حيثُ تمتزجُ البطولةُ بالجراحِ وبالحديدْ من مصنعِ الأبطالِ، أكتبُ يا أبي من بورسعيدْ..
الوصول إلى وجدان مئتي مليون عربي
هجمَ النفطُ مثل ذئبٍ علينا..من بحارِ النزيفِ.. جاءَ إليكم حاملاً قلبهُ على كفَّيهِ ساحباً خنجرَ الفضيحةِ والشعرِ، ونارُ التغييرِ في عينيهِ نازعاً معطفَ العروبةِ عنهُ قاتلاً، في ضميرهِ، أبويهِ كافراً بالنصوصِ، لا تسألوهُ كيفَ ماتَ التاريخُ في مقلتيهِ كسَرتهُ بيروتُ مثلَ إناءٍ فأتى ماشياً على جفنيهِ أينَ يمضي؟ كلُّ الخرائطِ ضاعت أين يأوي؟ لا سقفَ يأوي إليهِ ليسَ في الحيِّ كلِّهِ قُرشيٌّ غسلَ الله من قريشٍ يديهِ هجمَ النفطُ مثل ذئبٍ علينا فارتمينا قتلى على نعليهِ وقطعنا صلاتنا.. واقتنعنا أنَّ مجدَ الغنيِّ في خصيتيهِ أمريكا تجرّبُ السوطَ فينا وتشدُّ الكبيرَ من أذنيهِ وتبيعُ الأعرابَ أفلامَ فيديو وتبيعُ الكولا إلى سيبويهِ أمريكا ربٌّ.. وألفُ جبانٍ بيننا، راكعٌ على ركبتيهِ من خرابِ الخرابِ.. جاءَ إليكم حاملاً موتهُ على كتفيهِ أيُّ شعرٍ تُرى، تريدونَ منهُ والمساميرُ، بعدُ، في معصميهِ؟ يا بلاداً بلا شعوبٍ.. أفيقي واسحبي المستبدَّ من رجليهِ يا بلاداً تستعذبُ القمعَ.. حتّى صارَ عقلُ الإنسانِ في قدميهِ كيفَ يا سادتي، يغنّي المغنّي بعدما خيّطوا لهُ شفتيهِ؟ هل إذا ماتَ شاعرٌ عربيٌّ يجدُ اليومَ من يصلّي عليهِ؟… من شظايا بيروتَ.. جاءَ إليكم والسكاكينُ مزّقت رئتيهِ رافعاً رايةَ العدالةِ والحبّ.. وسيفُ الجلادِ يومي إليهِ قد تساوت كلُّ المشانقِ طولاً وتساوى شكلُ السجونِ لديهِ لا يبوسُ اليدين شعري.. وأحرى بالسلاطينِ، أن يبوسوا يديهِ
النصائحُ الذهبية.. في أدب الكتابة النفطية
لو شاءت الأقدار أن تكون كاتـبا يجلس تحت جُبّـةِ الصحافةِ النفطية فهذه نصائحي إليك :
القدسبكيت.. حتى انتهت الدموع صليت.. حتى ذابت الشموع ركعت.. حتى ملّني الركوع سألت عن محمد، فيكِ وعن يسوع يا قُدسُ، يا مدينة تفوح أنبياء يا أقصر الدروبِ بين الأرضِ والسماء يا قدسُ، يا منارةَ الشرائع يا طفلةً جميلةً محروقةَ الأصابع حزينةٌ عيناكِ، يا مدينةَ البتول يا واحةً ظليلةً مرَّ بها الرسول حزينةٌ حجارةُ الشوارع حزينةٌ مآذنُ الجوامع يا قُدس، يا جميلةً تلتفُّ بالسواد من يقرعُ الأجراسَ في كنيسةِ القيامة؟ صبيحةَ الآحاد.. من يحملُ الألعابَ للأولاد؟ في ليلةِ الميلاد.. يا قدسُ، يا مدينةَ الأحزان يا دمعةً كبيرةً تجولُ في الأجفان من يوقفُ العدوان؟ عليكِ، يا لؤلؤةَ الأديان من يغسل الدماءَ عن حجارةِ الجدران؟ من ينقذُ الإنجيل؟ من ينقذُ القرآن؟ من ينقذُ المسيحَ ممن قتلوا المسيح؟ من ينقذُ الإنسان؟ يا قدسُ.. يا مدينتي يا قدسُ.. يا حبيبتي غداً.. غداً.. سيزهر الليمون وتفرحُ السنابلُ الخضراءُ والزيتون وتضحكُ العيون.. وترجعُ الحمائمُ المهاجرة.. إلى السقوفِ الطاهره ويرجعُ الأطفالُ يلعبون ويلتقي الآباءُ والبنون على رباك الزاهرة.. يا بلدي.. يا بلد السلام والزيتون
طريقٌ واحدٌأريدُ بندقيّة.. خاتمُ أمّي بعتهُ من أجلِ بندقية محفظتي رهنتُها من أجلِ بندقية.. اللغةُ التي بها درسنا الكتبُ التي بها قرأنا.. قصائدُ الشعرِ التي حفظنا ليست تساوي درهماً.. أمامَ بندقية.. أصبحَ عندي الآنَ بندقية.. إلى فلسطينَ خذوني معكم إلى ربىً حزينةٍ كوجهِ مجدليّة إلى القبابِ الخضرِ.. والحجارةِ النبيّة عشرونَ عاماً.. وأنا أبحثُ عن أرضٍ وعن هويّة أبحثُ عن بيتي الذي هناك عن وطني المحاطِ بالأسلاك أبحثُ عن طفولتي.. وعن رفاقِ حارتي.. عن كتبي.. عن صوري.. عن كلِّ ركنٍ دافئٍ.. وكلِّ مزهريّة.. أصبحَ عندي الآنَ بندقيّة إلى فلسطينَ خذوني معكم يا أيّها الرجال.. أريدُ أن أعيشَ أو أموتَ كالرجال أريدُ.. أن أنبتَ في ترابها زيتونةً، أو حقلَ برتقال.. أو زهرةً شذيّة قولوا.. لمن يسألُ عن قضيّتي بارودتي.. صارت هي القضيّة.. أصبحَ عندي الآنَ بندقيّة.. أصبحتُ في قائمةِ الثوّار أفترشُ الأشواكَ والغبار وألبسُ المنيّة.. مشيئةُ الأقدارِ لا تردُّني أنا الذي أغيّرُ الأقدار يا أيّها الثوار.. في القدسِ، في الخليلِ، في بيسانَ، في الأغوار.. في بيتِ لحمٍ، حيثُ كنتم أيّها الأحرار تقدموا.. تقدموا.. فقصةُ السلام مسرحيّة.. والعدلُ مسرحيّة.. إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ يمرُّ من فوهةِ بندقيّة.. أعلى
منشورات فدائية على جدران إسرائيللن تجعلوا من شعبنا شعبَ هنودٍ حُمرْ.. فنحنُ باقونَ هنا.. في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها إسوارةً من زهرْ فهذهِ بلادُنا.. فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعرْ مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها مثلَ حشيشِ البحرْ.. مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها في قمحِها المُصفرّْ مشرِّشونَ نحنُ في وجدانِها باقونَ في آذارها باقونَ في نيسانِها باقونَ كالحفرِ على صُلبانِها ياقونَ في نبيّها الكريمِ، في قُرآنها.. وفي الوصايا العشرْ.. لا تسكروا بالنصرْ… إذا قتلتُم خالداً.. فسوفَ يأتي عمرْو وإن سحقتُم وردةً.. فسوفَ يبقى العِطرْ لأنَّ موسى قُطّعتْ يداهْ.. ولم يعُدْ يتقنُ فنَّ السحرْ.. لأنَّ موسى كُسرتْ عصاهْ ولم يعُدْ بوسعهِ شقَّ مياهِ البحرْ لأنكمْ لستمْ كأمريكا.. ولسنا كالهنودِ الحمرْ فسوفَ تهلكونَ عن آخركمْ فوقَ صحاري مصرْ… المسجدُ الأقصى شهيدٌ جديدْ نُضيفهُ إلى الحسابِ العتيقْ وليستِ النارُ، وليسَ الحريقْ سوى قناديلٍ تضيءُ الطريقْ من قصبِ الغاباتْ نخرجُ كالجنِّ لكمْ.. من قصبِ الغاباتْ من رُزمِ البريدِ، من مقاعدِ الباصاتْ من عُلبِ الدخانِ، من صفائحِ البنزينِ، من شواهدِ الأمواتْ من الطباشيرِ، من الألواحِ، من ضفائرِ البناتْ من خشبِ الصُّلبانِ، ومن أوعيةِ البخّورِ، من أغطيةِ الصلاةْ من ورقِ المصحفِ نأتيكمْ من السطورِ والآياتْ… فنحنُ مبثوثونَ في الريحِ، وفي الماءِ، وفي النباتْ ونحنُ معجونونَ بالألوانِ والأصواتْ.. لن تُفلتوا.. لن تُفلتوا.. فكلُّ بيتٍ فيهِ بندقيةْ من ضفّةِ النيلِ إلى الفراتْ لن تستريحوا معنا.. كلُّ قتيلٍ عندنا يموتُ آلافاً من المراتْ… إنتبهوا.. إنتبهوا… أعمدةُ النورِ لها أظافرْ وللشبابيكِ عيونٌ عشرْ والموتُ في انتظاركم في كلِّ وجهٍ عابرٍ… أو لفتةٍ.. أو خصرْ الموتُ مخبوءٌ لكم.. في مشطِ كلِّ امرأةٍ.. وخصلةٍ من شعرْ.. يا آلَ إسرائيلَ.. لا يأخذْكم الغرورْ عقاربُ الساعاتِ إن توقّفتْ، لا بدَّ أن تدورْ.. إنَّ اغتصابَ الأرضِ لا يُخيفنا فالريشُ قد يسقطُ عن أجنحةِ النسورْ والعطشُ الطويلُ لا يخيفنا فالماءُ يبقى دائماً في باطنِ الصخورْ هزمتمُ الجيوشَ.. إلا أنكم لم تهزموا الشعورْ قطعتم الأشجارَ من رؤوسها.. وظلّتِ الجذورْ ننصحُكم أن تقرأوا ما جاءَ في الزّبورْ ننصحُكم أن تحملوا توراتَكم وتتبعوا نبيَّكم للطورْ.. فما لكم خبزٌ هنا.. ولا لكم حضورْ من بابِ كلِّ جامعٍ.. من خلفِ كلِّ منبرٍ مكسورْ سيخرجُ الحجّاجُ ذاتَ ليلةٍ.. ويخرجُ المنصورْ إنتظرونا دائماً.. في كلِّ ما لا يُنتظَرْ فنحنُ في كلِّ المطاراتِ، وفي كلِّ بطاقاتِ السفرْ نطلعُ في روما، وفي زوريخَ، من تحتِ الحجرْ نطلعُ من خلفِ التماثيلِ وأحواضِ الزَّهرْ.. رجالُنا يأتونَ دونَ موعدٍ في غضبِ الرعدِ، وزخاتِ المطرْ يأتونَ في عباءةِ الرسولِ، أو سيفِ عُمرْ.. نساؤنا.. يرسمنَ أحزانَ فلسطينَ على دمعِ الشجرْ يقبرنَ أطفالَ فلسطينَ، بوجدانِ البشرْ يحملنَ أحجارَ فلسطينَ إلى أرضِ القمرْ.. لقد سرقتمْ وطناً.. فصفّقَ العالمُ للمغامرةْ صادرتُمُ الألوفَ من بيوتنا وبعتمُ الألوفَ من أطفالنا فصفّقَ العالمُ للسماسرةْ.. سرقتُمُ الزيتَ من الكنائسِ سرقتمُ المسيحَ من بيتهِ في الناصرةْ فصفّقَ العالمُ للمغامرةْ وتنصبونَ مأتماً.. إذا خطفنا طائرةْ تذكروا.. تذكروا دائماً بأنَّ أمريكا – على شأنها – ليستْ هيَ اللهَ العزيزَ القديرْ وأن أمريكا – على بأسها – لن تمنعَ الطيورَ أن تطيرْ قد تقتلُ الكبيرَ.. بارودةٌ صغيرةٌ.. في يدِ طفلٍ صغيرْ ما بيننا.. وبينكم.. لا ينتهي بعامْ لا ينتهي بخمسةٍ.. أو عشرةٍ.. ولا بألفِ عامْ طويلةٌ معاركُ التحريرِ كالصيامْ ونحنُ..باقونَ على صدوركمْ.. كالنقشِ في الرخامْ.. باقونَ في صوتِ المزاريبِ.. وفي أجنحةِ الحمامْ باقونَ في ذاكرةِ الشمسِ، وفي دفاترِ الأيامْ باقونَ في شيطنةِ الأولادِ.. في خربشةِ الأقلامْ باقونَ في الخرائطِ الملوّنةْ باقونَ في شعر امرئ القيس.. وفي شعر أبي تمّامْ.. باقونَ في شفاهِ من نحبّهمْ باقونَ في مخارجِ الكلامْ.. موعدُنا حينَ يجيءُ المغيبْ موعدُنا القادمُ في تل أبيبْ "نصرٌ من اللهِ وفتحٌ قريبْ" ليسَ حزيرانُ سوى يومٍ من الزمانْ وأجملُ الورودِ ما ينبتُ في حديقةِ الأحزانْ.. للحزنِ أولادٌ سيكبرونْ.. للوجعِ الطويلِ أولادٌ سيكبرونْ للأرضِ، للحاراتِ، للأبوابِ، أولادٌ سيكبرونْ وهؤلاءِ كلّهمْ.. تجمّعوا منذُ ثلاثينَ سنهْ في غُرفِ التحقيقِ، في مراكزِ البوليسِ، في السجونْ تجمّعوا كالدمعِ في العيونْ وهؤلاءِ كلّهم.. في أيِّ.. أيِّ لحظةٍ من كلِّ أبوابِ فلسطينَ سيدخلونْ.. ..وجاءَ في كتابهِ تعإلى: بأنكم من مصرَ تخرجونْ وأنكمْ في تيهها، سوفَ تجوعونَ، وتعطشونْ وأنكم ستعبدونَ العجلَ دونَ ربّكمْ وأنكم بنعمةِ الله عليكم سوفَ تكفرونْ وفي المناشير التي يحملُها رجالُنا زِدنا على ما قالهُ تعإلى: سطرينِ آخرينْ: ومن ذُرى الجولانِ تخرجونْ وضفّةِ الأردنِّ تخرجونْ بقوّةِ السلاحِ تخرجونْ.. سوفَ يموتُ الأعورُ الدجّالْ سوفَ يموتُ الأعورُ الدجّالْ ونحنُ باقونَ هنا، حدائقاً، وعطرَ برتقالْ باقونَ فيما رسمَ اللهُ على دفاترِ الجبالْ باقونَ في معاصرِ الزيتِ.. وفي الأنوالْ في المدِّ.. في الجزرِ.. وفي الشروقِ والزوالْ باقونَ في مراكبِ الصيدِ، وفي الأصدافِ، والرمالْ باقونَ في قصائدِ الحبِّ، وفي قصائدِ النضالْ باقونَ في الشعرِ، وفي الأزجالْ باقونَ في عطرِ المناديلِ.. في (الدَّبكةِ) و(الموَّالْ).. في القصصِ الشعبيِّ، والأمثالْ باقونَ في الكوفيّةِ البيضاءِ، والعقالْ باقونَ في مروءةِ الخيلِ، وفي مروءةِ الخيَّالْ بالقونَ في (المهباجِ) والبُنِّ، وفي تحيةِ الرجالِ للرجالْ باقونَ في معاطفِ الجنودِ، في الجراحِ، في السُّعالْ باقونَ في سنابلِ القمحِ، وفي نسائمِ الشمالْ باقونَ في الصليبْ.. باقونَ في الهلالْ.. في ثورةِ الطلابِ، باقونَ، وفي معاولِ العمّالْ باقونَ في خواتمِ الخطبةِ، في أسِرَّةِ الأطفالْ باقونَ في الدموعْ.. باقونَ في الآمالْ تسعونَ مليوناً من الأعرابِ خلفَ الأفقِ غاضبونْ با ويلكمْ من ثأرهمْ.. يومَ من القمقمِ يطلعونْ.. لأنَّ هارونَ الرشيدَ ماتَ من زمانْ ولم يعدْ في القصرِ غلمانٌ، ولا خصيانْ لأنّنا مَن قتلناهُ، وأطعمناهُ للحيتانْ لأنَّ هارونَ الرشيدَ لم يعُدْ إنسانْ لأنَّهُ في تختهِ الوثيرِ لا يعرفُ ما القدسَ.. وما بيسانْ فقد قطعنا رأسهُ، أمسُ، وعلّقناهُ في بيسانْ لأنَّ هارونَ الرشيدَ أرنبٌ جبانْ فقد جعلنا قصرهُ قيادةَ الأركانْ.. ظلَّ الفلسطينيُّ أعواماً على الأبوابْ.. يشحذُ خبزَ العدلِ من موائدِ الذئابْ ويشتكي عذابهُ للخالقِ التوَّابْ وعندما.. أخرجَ من إسطبلهِ حصاناً وزيَّتَ البارودةَ الملقاةَ في السردابْ أصبحَ في مقدورهِ أن يبدأَ الحسابْ.. نحنُ الذينَ نرسمُ الخريطةْ ونرسمُ السفوحَ والهضابْ.. نحنُ الذينَ نبدأُ المحاكمةْ ونفرضُ الثوابَ والعقابْ.. العربُ الذين كانوا عندكم مصدّري أحلامْ تحوّلوا بعدَ حزيرانَ إلى حقلٍ من الألغامْ وانتقلت (هانوي) من مكانها.. وانتقلتْ فيتنامْ.. حدائقُ التاريخِ دوماً تزهرُ.. ففي ذُرى الأوراسِ قد ماجَ الشقيقُ الأحمرُ.. وفي صحاري ليبيا.. أورقَ غصنٌ أخضرُ.. والعربُ الذين قلتُم عنهمُ: تحجّروا تغيّروا.. تغيّروا أنا الفلسطينيُّ بعد رحلةِ الضياعِ والسّرابْ أطلعُ كالعشبِ من الخرابْ أضيءُ كالبرقِ على وجوهكمْ أهطلُ كالسحابْ أطلعُ كلَّ ليلةٍ.. من فسحةِ الدارِ، ومن مقابضِ الأبوابْ من ورقِ التوتِ، ومن شجيرةِ اللبلابْ من بركةِ الدارِ، ومن ثرثرةِ المزرابْ أطلعُ من صوتِ أبي.. من وجهِ أمي الطيبِ الجذّابْ أطلعُ من كلِّ العيونِ السودِ والأهدابْ ومن شبابيكِ الحبيباتِ، ومن رسائلِ الأحبابْ أفتحُ بابَ منزلي. أدخلهُ. من غيرِ أن أنتظرَ الجوابْ لأنني أنا.. السؤالُ والجوابْ محاصرونَ أنتمُ بالحقدِ والكراهيةْ فمن هنا جيشُ أبي عبيدةٍ ومن هنا معاويةْ سلامُكم ممزَّقٌ.. وبيتُكم مطوَّقٌ كبيتِ أيِّ زانيةْ.. نأتي بكوفيّاتنا البيضاءِ والسوداءْ نرسمُ فوقَ جلدكمْ إشارةَ الفداءْ من رحمِ الأيامِ نأتي كانبثاقِ الماءْ من خيمةِ الذُّل التي يعلكُها الهواءْ من وجعِ الحسينِ نأتي.. من أسى فاطمةَ الزهراءْ من أُحدٍ نأتي.. ومن بدرٍ.. ومن أحزانِ كربلاءْ نأتي لكي نصحّحَ التاريخَ والأشياءْ ونطمسَ الحروفَ.. في الشوارعِ العبريّةِ الأسماء..
السيمفونية الجنوبية الخامسة
أعلى
أمسية شعرية.. في مستشفى للولادة
أعلى
أطفالُ الحجارةبهروا الدنيا.. وما في يدهم إلا الحجارة.. وأضاؤوا كالقناديلِ وجاؤوا كالبشارة قاوموا.. وانفجروا.. واستشهدوا.. وبقينا دبباً قطبيةً صُفِّحت أجسادُها ضدَّ الحرارة.. قاتَلوا عنّا إلى أن قُتلوا.. وجلسنا في مقاهينا.. كبصَّاق المحارة واحدٌ يبحثُ منّا عن تجارة.. واحدٌ.. يطلبُ ملياراً جديداً.. وزواجاً رابعاً.. ونهوداً صقلتهنَّ الحضارة.. واحدٌ.. يبحثُ في لندنَ عن قصرٍ منيفٍ واحدٌ.. يعملُ سمسارَ سلاح.. واحدٌ.. يطلبُ في الباراتِ ثاره.. واحدٌ.. بيحثُ عن عرشٍ وجيشٍ وإمارة.. آهِ.. يا جيلَ الخياناتِ.. ويا جيلَ العمولات.. ويا جيلَ النفاياتِ ويا جيلَ الدعارة.. سوفَ يجتاحُكَ –مهما أبطأَ التاريخُ- أطفالُ الحجارة.. أعلى
شعراء الأرض المحتلة
يا تلاميذ غزةيا تلاميذ غزة علمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا علمونا بأن نكون رجالا فلدينا الرجال صاروا عجينا علمونا كيف الحجارة تغدو بين أيدي الأطفال ماسا ثمينا كيف تغدو دراجة الطفل لغما وشريط الحرير يغدو كمينا كيف مصاصة الحليب إذا ما اعتقلوها تحولت سكينا يا تلاميذ غزة لا تبالوا بإذاعاتنا ولا تسمعونا اضربوا اضربوا بكل قواكم واحزموا أمركم ولا تسألونا نحن أهل الحساب والجمع والطرح فخوضوا حروبكم واتركونا إننا الهاربون من خدمة الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى لا يملكون عيونا قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا قد صغرنا أمامكم ألف قرن وكبرتم خلال شهر قرونا يا تلاميذ غزة لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقرأونا نحن آباؤكم فلا تشبهونا نحن أصنامكم فلا تعبدونا نتعاطى القات السياسي والقمع ونبني مقابرا وسجونا حررونا من عقدة الخوف فينا واطردوا من رؤوسنا الافيونا علمونا فن التشبث بالأرض ولا تتركوا المسيح حزينا يا أحباءنا الصغار سلاما جعل الله يومكم ياسمينا من شقوق الأرض الخراب طلعتم وزرعتم جراحنا نسرينا هذه ثورة الدفاتر والحبر فكونوا على الشفاه لحونا أمطرونا بطولة وشموخا واغسلونا من قبحنا اغسلونا لا تخافوا موسى ولا سحر موسى واستعدوا لتقطفوا الزيتونا إن هذا العصر اليهودي وهم سوف ينهار لو ملكنا اليقين يا مجانين غزة ألف أهلا بالمجانين إن هم حررونا إن عصر العقل السياسي ولى من زمان فعلمونا الجنون
الحجر الفلسطيني
دكتوراه شرف في كيمياء الحجر
أعلى
راشيل.. وأخواتها..!!
أعلى
أحزان في الأندلس
الـوصية
مورفين
حول هوامش على دفتر النكسة
لن أتكلم هنا عن حزيران العسكري، أو الحربي، فهذا شأن من شؤون المؤرخين وجامعي الوثائق. حزيران الذي سأتكلم عنه هو حزيران النفسي الذي تفوق آثاره في نظري آثار حزيران العسكري.. كلّ الأشياء المكسورة في الحرب تعوّض. الطائرات، والدبابات، والرادارات، وناقلات الجنود.. قابلة للتعويض. وحدها النفس المكسورة.. لا يمكن جبرها أو تلصيقها. وحده القلب لا يمكن ترقيعه. إن حزيران كان ثمرة شديدة المرارة. بعضنا أكلها.. وبعضنا اعتاد تدريجياً على مذاقها.. وبعضنا تقيأها فوراً.. أنا كنت من الفئة الأخيرة التي أضربت عن الطعام.. ورفضت الاعتراف بالجنين المشوه الذي طرحه رحم حزيران. قصيدتي (هوامش على دفتر النكسة) كانت المانيفستو الذي ضمنته احتجاجي ومعارضتي. كيف جاءت القصيدة. ومن أين جاءت؟ لم أعد أتذكر الآن تفاصيل الولادة العسيرة. كل ما أذكره أن أوراقي وشراشف سريري كانت غارقة في الدم.. وأن زجاجات المصل التي كانت مثبتة فوق ذراعي لم تكن تكفي لتعويض الدم المهدور. كتبت (الهوامش) في مناخ المرض والهذيان.. وفقدان الرقابة على أصابعي. لذلك جاءت بشكل شحنات متقطعة، وصدمات كهربائية متلاحقة، تشبه صدمات التيار العالي التوتر.. كما أنها من حيث الشكل لم تكن تشبه أيّا من قصائدي الماضية، كانت مثلي مبعثرة ومتناثرة كبقايا طائر الفينيق. إنني لا أذكر أنني كتبت في كل حياتي الشعرية قصيدة بمثل هذه الحالة العصبية والتهيج. التهيج هو ضد الشعر. أنا أعرف ذلك. ولكنني أعترف لكم أن هذا قد حدث. وأنني للمرة الأولى أخالف تقاليدي الكتابية الصارمة، وأتعامل مع الانفعال تعاملا مباشرا. هل كان عليّ يا ترى – انسجاما مع منطقي الفنّي – أن أنتظر انحسار مياه الطوفان حتى أكتب عن الطوفان؟. وبالتالي هل كان على الأدب العربي، شعراً، ورواية، ومسرحية، أن يضع أعصابه في ثلاجة، حتى ترحل العاصفة، وتنحسر الغيوم الرمادية، وينبت للشجر المحترق أوراقا جديدة.. إن كثيرين من الكتّاب العرب كانوا يدافعون عن منطق الاعتذار، والتريّث، باعتبار أن الفن الحقيقي لا يكتب على ضوء الحرائق، وتحت تأثير ارتفاع درجات الحرارة المباغتة. إنهم يعتقدون أنه لا بدّ من الابتعاد عن وجه حزيران الملطخ بالدم والوحل. حتى نستطيع أن نراه. هذا المنطق هو منطق صحيح من الوجهة النظرية، لو أن أعصاب الفنان مصنوعة من القطن.. ولو أن الجرح المفتوح في لحم كبريائنا يقتنع بالانتظار. غير أن حزيران كان شهراً بلا منطق. لذلك فإن الكتابة عنه، هي الأخرى، يجب أن تكون بلا منطق. وهذا ما حدث في فرنسا يوم سقطت باريس خلال الحرب العالمية الثانية أمام آلة الحرب النازية. في هذه الحقبة السوداء من تاريخ فرنسا، ولد أدب المقاومة في أقبية البيوت الباريسية القديمة ودهاليز المترو، واستطاعت قصائد ايلوار واوراغون وكتابات سارتر وكامو أن تخرج من بين أكياس الرمل والأسلاك الشائكة كزهور نبتت في غير أوانها. إذن فالغضب ليس مرتبطا ارتباطا قدريا بنظريّات الفن، كما يرتبط النبات بنوع التربة، والمناخ والفصول. إن الغضب نبات متوحش من فصيلة الكاكتوس التي تنبت في أقصى ظروف الملوحة والعطش. نشرت القصيدة أوّل ما نشرت في مجلة (الآداب) اللبنانية. ولم أكن متأكدا حين دفعت القصيدة إلى الصديق سهيل إدريس أنه سينشرها. فخطّ سهيل إدريس القوميّ خطّ متفائل. وأحلامه العربية مشربة دائما باللون الورديّ. لكن حين جاء سهيل إدريس إلى مكتبي ذات صباح، وقرأت له القصيدة صرخ كطائر ينزف: " أنشرُها.. أنشرُها.. " قلت لسهيل: " إن القصيدة من نوع العبوّات الناسفة التي قد تحرق مجلّته، أو تعرّضها للإغلاق أو المصادرة .. وأنني لا أريد أن أورطّه وأكون سببا في تدمير المجلة.. " نظر إلي سيهل بعينين حزينتين تجمعت فيهما كل أمطار الدنيا، وكل أشجار الخريف المتكسرة، وقال بنبرة يمتزج فيها الألم الكبير بالصدق الكبير: " إذا كان حزيران قد دمّر كل أحلامنا الجميلة.. وأحرق الأخضر واليابس، فلماذا تبقى (الآداب) خارج منطقة الدمار والحرائق؟. هات القصيدة.. " وأعطيته القصيدة.. وصدقت توقعاتي وتوقعاته.. إذ صودرت المجلة، وأحرقت أعدادها في أكثر من مدينة عربية.. وجلسنا في بيروت، سهيل وأنا، نتفرج على ألسنة النار، ونرثي لهذا الوطن الذي لم تعلمه الهزيمة أن يفتح أبوابه للشمس وللحقيقة. لكنّ (هوامش على دفتر النكسة) لم تستسلم للقمع والمطاردة.. بل أخذت تتناسل كما تتناسل الأرانب بشكل خرافي.. كل نسخة كانت تلد عشر نسخ.. وازدهرت عمليات النسخ والطبع على آلات الرونيو.. ولم يعد للموظفين في مكاتبهم الرسمية، وللطلاب في جامعاتهم، وللجنود في وحداتهم، من عمل سوى طبع القصيدة بشكل مناشير، وتوزيعها على الباحثين عن الحقيقة، والمعذبين في الأرض. وابتدأت ردود الفعل تأتي من كل مكان في الوطن العربي. قبلات من هنا.. وشتائم من هناك.. أزهار من هذا.. وأشواك من ذاك.. غزل من صوب.. وطلقات رصاص من صوب آخر.. تقديس من فئة.. وتكفير من فئة أخرى.. واستمرت القصيدة – الأزمة تتفاعل في الوجدان العربي إيجابا وسلبا، واستمرت رسائل القراء وتعليقاتهم تتدفق على الصحف والمجلات قرابة ستة أشهر، حتى اضطر أصحاب هذه الصحف والمجلات إلى إغلاق باب المناقشة باعتبارها خرجت عن نطاق المعقول. ويكاد يكون من المستحيل أن استعيد الآن جميع ما قيل عن (هوامش على دفتر النكسة)، فهو معروف لدى كل من تابع وقائع المعركة في حينها. إلا أنه يمكن تلخيص عناصرها الرئيسية بالنقاط التالية: 1) أنا شاعر وهبت روحي للشيطان والمرأة.. وللغزل الفاحش، فلا يحق لي، بالتالي، أن أكتب شعر الوطنية. 2) أنا المسؤول الأول عن هزيمة حزيران، بما كتبته ونشرته خلال عشرين عاما، من شعر عاطفي ساعد على انحلال أخلاق الجيل الجديد. 3) أنا في (هوامش على دفتر النكسة) سادي.. أعذب أمتي، وأرقص فوق جراحها. 4) أنا أثبط الهمم، وأقتل الأمل، وبالتالي فأنا عميل أخدم بكلامي مصلحة العدو.. ولذا يجب شطب اسمي من قائمة العرب. 5) أنا لست وطنيا، ولكنني أركب موجة الوطنية. وولادتي بعد حزيران – كشاعر ثوري – ولادة غير طبيعية. كل هذه النعوت والأوصاف والإدانات لم ترمني على الأرض. بل على العكس، كنت أشعر أن قامتي تزداد طولا، وأنني استطعت بقصيدتي أن أحرك الجهاز العصبي للأمة العربية، وأخرج العقل العربي من غرفة التخدير.. كنت أتفرج على الحجارة المتساقطة على شبابيكي، بهدوء عجيب، وأستمع إلى لعنات اللاعنين، وصراخ الصارخين.. بابتسامة عريضة. بل كنت أحاول أن أجد العذر لهم، مستلهما كلمات السيد المسيح: "رب اغفر لهم فإنهم لا يعلمون.. ". والواقع أن لا أحد من المخدوعين كان يعلم أنه لا يعلم. فالجاهلية كانت مستمرة في فكرهم وفي سلوكهم، وقصائد عمرو بن كلثوم النحاسية، و(ديوان الحماسة) كانت نائمة نوما عميقا في عقلهم الباطن. كان يصعب عليهم – تاريخيا ووراثيا – أن يقتنعوا أن (ديوان الحماسة) لم يعد ذا موضوع بعد أن دخلت حربة إسرائيل في نخاعنا الشوكي. لم يكن في نيتي عندما كتبت (الهوامش) أن أمارس تعذيب النفس، أو تعذيب الآخرين، ولا أن أسرق أضواء الكاميرا.. وأكسر مزراب العين حتى أشتهر. ففي ساعات الحزن الكبير تتكسر كل الكاميرات.. ويصبح المجد باطل الأباطيل. ثم.. ما هو هذا المجد الذي يأكل من جثة التاريخ.. ويترعرع في ظل الموت والخرائب؟ كل ما فعلته هو أنني استقلت من وظيفة مغن في الكورس الجماعي، ورفضت نصوص الأناشيد التي كانت تجترها الجوقة بشكل غريزي. استقالتي لم تقبلها القبيلة. إذ ليس من عادات القبائل أن تسمح لأولادها بالخروج على طاعتها ومناقشة آرائها بشكل علنيّ. ليس من عادة القبيلة – أيّة قبيلة – أن تقبل بمبدأ (النقد الذاتي). فالصحراء شديدة الغرور، وشمسها سيف نحاسي لا يقتنع بأي جدل أو حوار. النقد الذاتي شيء مخالف للطبيعة العربية. وقناعة العربي بتفوقه، وتميزه، وسوبرمانيته، قناعة لا تقهر. فهو من طينة وبقية البشر من طينة. هو من معدن الماس وسائر الكائنات من فحم.. هو التاريخ والآخرون هوامش غير مرئية على جانبيه. وهكذا كانت هزيمة حزيران بالنسبة للعربي أشبه بمسرح اللامعقول. قرأ عنها في الصحف، ونشرات وكالات الأنباء، ورأى مشاهدها على شاشات التلفزيون، ولكنه لم يصدقها.. ولذلك لم يصدق أكثر العرب قصيدتي لدي نشرها للمرة الأولى. صدمتهم صيغتها، ولغتها، وأفكارها، ونبرتها القاسية.. كانوا قد أدمنوا (ديوان الحماسة) واستلقوا على وسائده المريحة. وكانوا واثقين من أنهم وحدهم يشربون الماء صرفا (ويشرب غيرهم كدرا وطينا). وهنا حدث الانكسار الكبير بين ذاكرتهم وواقعهم، بين الحلم وبين التطبيق. ولم تكن الشظايا التي انغرزت في لحمي بعد نشر (الهوامش) سوى نتيجة طبيعية لتحطيم الزجاج الملون في نفس الإنسان العربي. وسقوط مفهوم الوطنية بمعناه الديماغوجي والعشائري. هذه الوطنية التي كانت لا ترى ولا تسمع ولا تحفظ سوى بيت واحد من الشعر يمثل التعصب القبلي في أعلى درجاته. " وما أنا إلا من غزيَّة.. إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد.. " إنني بكل تأكيد أنتمي لغزية.. بالولادة، واللغة، والميراث.. ولكن انتمائي إليها لا يعني بصورة من الصور إلغاء عقلي وبصيرتي، وسكوتي على حماقات غزيَّة، وحماقات من يحكمونها.. ربما كان خطأي الكبير أنني لا أملك غريزة القطيع، وتفكير القطيع، وانصياع القطيع، وهذه هي مشكلة الفنان في كل العصور، فهو بطبيعة تكوينه، وبطبيعة عملية الإبداع نفسها، مضطر إلى تغيير العلاقات التاريخية والعضوية بين الأشياء التي لا تريد أن تتغير. إنه الصدام القديم الأزلي بين المطرقة وبين الحجر، بين المسمار وبين الخشبة، بين الخنجر وبين الجرح. لا قيمة لفن لا يحدث ارتجاجا في قشرة الكرة الأرضية.. ولا قيمة لقصيدة لا تشعل الحرائق في الوجدان العام.. وفي المرحلة التاريخية التي نعيشها، لا قيمة لشعر يحترف التبخير والخوف والتستر والتقية.. يكون الشعر كشفا وإضاءة وتعرية للزيف والزائفين أو لا يكون. وكل قصيدة عربية معاصرة تجامل وتنافق وتتستر على رداءة التمثيلية وتفاهة الممثلين، تتحول إلى ممسحة على أقدام سيف الدولة.. لم يبق بعد حزيران للشاعر سوى حصان واحد يمتطيه هو الغضب.. ولكن أين يبدأ حدود هذا الغضب وأين ينتهي؟ صعب على كثيرا أن أرسم حدود غضبي. فطالما أن هناك سنتمترا واحدا من أرضي تحتله إسرائيل، وتذله، وتقيم عليه مستعمراتها، فإن غضبي بحر لا ساحل له. وربما يسألني سائل: لماذا أرفض؟ وأنا أسأل بدوري: لماذا أقبل؟.. وماذا أقبل؟ هل أرفع قبعتي لهذه الدويلات العربيات المتناحرة كالديكة، الغارقة حتى الرقبة في أنانياتها، وفرديتّها، ونرجسيتّها، وعبادة ذاتها؟ هل من المفترض أن أبتهج للبيارق، والمخافر، وأكياس الرمل التي تصطدم بها وأنت تعبر الحدود بين قطر عربي وقطر آخر؟. لغيري أن يستعمل المنظار الوردي. ولغيري أن يعمّر القصور في اسبانيا، أما أنا فسوف أبقى ساحبا سيفي في وجه الخرافة حتى أقتلها.. أو تقتلني.. أنا لا أستطيع أن أتحدث على طريقة عمرو بن كلثوم: " إذ بلغ الفطام لنا صبي تخرّ له الجبابرة ساجدينا " إن الأطفال في عصر عمرو بن كلثوم كانوا بخير، وكان لهم وطن وقبيلة. أما أطفال القدس، وحيفا، ويافا، ونابلس، والناصرة، فلا يزالون يبحثون عن وطن.. ويبحثون عن قبيلة. ووظيفة الشعر أن يصرخ في وجه هذه القبائل التي تذبح بعضها، وتشرب دم بعضها.. علّها تعرف أن أحفاد عمرو بن كلثوم أصبحوا يحفظون الشعر العبري في مدارس الأرض المحتلة. وظيفة الشعر أن يقتل الوحش الذي استوطن كل مدينة عربية منذ القرن العاشر ولازال يأكل أطفالها، ويسبي نساءها، ويملأ بالرعب لياليها. وما (هوامش على دفتر النكسة) سوى محاولة لاصطياد الوحش الكبير، وقص أنيابه، قبل أن يفترس كل شيء. الناس يعرفونني عاشقا كبيرا.. ولا يريدون أن يعرفوني غاضبا كبيرا.. يعرفون وجه العملة الأمامي، ولا يهتمون بوجهها الخلفي. يقبلون نزار قباني قبل 5 حزيران.. ويرفضون نزار قباني بعد 5 حزيران.. يطبقون عليّ معلوماتهم الجغرافية، ويعتبرون شعري العاطفي قارة.. وشعري الثوري قارة.. وبينهما بحر الخامس من حزيران. يضعونني في زجاجة الحبّ.. ويختمونها بالشمع الأحمر. هذا تحديد ساذج للحبّ.. وتحديد ساذج لي. فالذي يحب امرأة يحب وطنا.. والذي يحب وجها جميلا يحب العالم. ولكن بلادي لا ترى الحبّ إلا من ثقب إبرة. لا تراه إلا من جغرافية جسد المرأة. إن كتاباتي عن المرأة لا تعني بشكل من الأشكال أنني وقعت معاهدة أبدية مع جسدها. فالحبّ عندي عناق للكون، وعناق للإنسان. والوطن قد يصبح في مرحلة من المراحل عشيقة أجمل من كل العشيقات، وأغلى من كل العشيقات. لذلك رفضت ولا أزال أرفض هذا الأسلوب الجراحي في تقسيم الشاعر. كما أرفض اعتباري مادة كيمياوية محدودة اللون والطعم والرائحة. أرفض أن أكون مثلثا.. أو مربعا.. أو دائرة.. فالشاعر ليس شكلا هندسيا لا يستطيع تجاوز نفسه، ولا تمثالا من البرونز في حديقة عامة لا يستطيع أن يترك قاعدته.. إن مثل هذه النظرية التجزيئية إلى الشاعر لا توجد إلا لدينا. فنحن مولعون ولعا مفرطا في وضع شعرائنا في زجاجات – كما يفعل الصيادلة – وإلصاق أوراق عليها تبين محتوياتها. الشاعر حالة. وليس شجرة ولا وتد خيمة. والحالة تنتقل في كل ثانية إلى حالة أخرى. والشاعر كموج البحر في انقلاب مستمر على نفسه. ولذا فإن تحولي بعد الخامس من حزيران ليس معجزة ولا نصف معجزة.. إنه رد فعل إنساني. عمل تدافع به الحياة عن نفسها. ولكن هل (الهوامش) هي وثيقة التكفير عن ذنوبي القديمة؟ هل هي صوت التوبة؟ إنني بصراحة لا أشعر بالحاجة للتكفير عن جريمة وهمية لم أرتكبها.. وإذا كان المقصود من التوبة هو إنكار شعر الحب الذي كتبته قبل 5 حزيران 1967، فإنني أعتذر عن تقديم أية تنازلات في هذا الموضوع. إنني على غير استعداد لشطب تاريخي الشعري قبل 5 حزيران بضربة قلم. ولا أنا على استعداد لإضرام النار في كتبي ودفاتري وأثاث بيتي.. والاعتذار عن كلام خزنت فيه عواطف جيل كامل من أبناء وبنات بلادي. لست أنا الذي اخترع الحب حتى أعدم بسببه، ولست أنا الذي أدار النهد حتى أصلب على رخامه، ولست أنا الذي ضفر ضفائر النساء حتى أشنق بها.. كل هذه الأشياء كانت موجودة قبل ولادتي، فإذا كتبت عنها فلأنها حقيقة كأهرامات مصر وأعمدة بعلبكّ. ما كتبته قبل 5 حزيران ليس مكتوبا لسكان المريخ وساكناته، فأنا لا أكتب لسكان الكواكب الأخرى، وإنما أكتب للإنسان الذي يعاصرني، وله عواطف تشبه عواطفي، وجسد يشبه جسدي، ودموع تشبه دموعي. أنا لا أخترع الإنسان في شعري. إنني أسجل صوته وأفكاره على شريط تسجيل. وأنا بعملي هذا، كنت شاهد عصري، ولم أكن متطفلا ولا شاهد زور. إنني لا أبرز هنا وثيقة دفاع عن النفس، فأنا لا أشعر بضرورة كتابة دفاع عن جناية لم تحدث أصلا.. كما لا أجد نفسي مضطرا لتقديم حساب إلى أية سلطة كانت.. سماوية كانت.. أم أرضية. كل ما أريد أن أوضحه، أن النقطتين التاريخيتين التي يفصل بينهما الخامس من حزيران، هما في تصوري نقطتان افتراضيتان.. فبالنسبة لشعري لا يوجد قبل ولا يوجد بعد.. لا يوجد أمام ولا يوجد وراء.. وإنما يوجد الشعر نفسه. الشعر المنفعل بالعصر وبالأرض وبالإنسان. إنني لا أسمح بتحويلي إلى (سوبر ماركت) تعرض البضائع فيه حسب حاجات المستهلكين، ورغبات ربات البيوت. على من يريد أن يقرأني، أن يدخل إلى عالمي الشعري دخولا كاملا وشموليا. أما الذي يكتفي بدخول غرفة واحدة من غرف البيت الكبير، وينسى بقية الغرف، فلا أريد أن يزورني مرة أخرى.. فأنا لست بحاجة إلى قراء يحملون كاميرات السيّاح.. ولا يستعملونها.. إنني أكتب عن المرأة، وعن القضية العربية بحبر واحد.. وأقاتل من أجل تحرير المرأة من رسوبات العصر الجاهلي، كما أقاتل من أجل تحرير الأرض من حوافر الخيول الإسرائيلية.. أصابعي هي هي.. وصوتي هو هو.. وأنا موجود في عيون الجميلات، كما أنا موجود في فوهات البنادق.. والذين أذهلهم صوتي الحزيراني وفاجأهم، هم الذين ينظرون إلى الأعمال الأدبية بمنطق العطّارين، دون أن يعرفوا أن الشاعر بمجرد أن يحمل صفة الشاعر، يصبح كالبحر والسماوات، غير قابل للتجزئة.
أعلى
هوامش على دفتر النكسة
أعلى
حزيران والشعر
سيادة الرئيس جمال عبد الناصر في هذه الأيام التي أصبحت فيها أعصابنا رمادا، وطوقتنا الأحزان في كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفصيل القصة، أنني نشرت في أعقاب نكسة الخامس من حزيران قصيدة عنوانها (هوامش على دفتر النكسة) أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا. وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف يكون بمساحة الجرح. من منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟ من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض؟ إن قصيدتي كانت محاولة لإعادة تقييم أنفسنا كما نحن، بعيدا عن التبجح والمغالاة والانفعال، وبالتالي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد يختلف بملامحه وتكوينه عن فكر ما قبل 5 حزيران. إنني لم اقل أكثر مما قاله غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي. وإذا سمحت لي يا سيادة الرئيس أن أكون أكثر وضوحا وصراحة، قلت إني لم أتجاوز في قصيدتي نطاق أفكارك في النقد الذاتي، يوم وقفت بعد النكسة تكشف بشرف وأمانة حساب المعركة، وتعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إنني لم أخترع شيئا من عندي، فأخطاء العرب النفسية والسياسية والسلوكية، مكشوفة كالكتاب المفتوح. وماذا تكون قيمة الأديب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهها الأبيض ووجهها الأسود معا؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج يمسح أذيال المجتمع وينافق له؟ لذلك أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها. والقضية ليست قضية مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، لكن القضية أعمق وأبعد. القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي. كيف نريده؟ حرا أم نصف حر؟ شجاعا أم جبانا؟ نبيا أم مهرجا؟ القضية هي أن يسقط أي شاعر تحت حوافر الفكر الغوغاتي لأنه تفوه بالحقيقة. والقضية أخيرا، هي أن نعرف ما إذا كان تاريخ 5 حزيران سيكون تاريخا نولد فيه من جديد، بجلود جديدة، وأفكار جديدة، ومنطق جديد. قصيدتي أمامك يا سيادة الرئيس، أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه فيك من سعة أفق، وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأنني كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق الأصل، لوجوهنا الشاحبة والمرهقة. لم يكن بإمكاني، وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له. لم يكن بوسعي أن أقف أمام جسد أمتي المريض، أعالجه بالأدعية والحجابات والضراعات. فالذي يحب أمته، يا سيادة الرئيس، يطهر جراحها بالكحول، ويكوي – إذا لزم الأمر- المناطق المصابة بالنار. سيادة الرئيس. إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها. وأنا لا اطلب شيئا أكثر من سماع صوتي. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه. لا أطالب يا سيادة الرئيس، إلا بحرية الحوار، فأنا اشتم في مصر ولا أحد يعرف لماذا اشتم، وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأنني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفا من هذه القصيدة. لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية وأثارت جدلا كبيرا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا، فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوبها في وجه الكلمة وتضيق بها. يا سيدي الرئيس.. لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه، ويسمح باضطهاد شاعر عربي أراد أن يكون شريفا وشجاعا في مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته. يا سيدي الرئيس.. لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك. بيروت في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1967 نزار قباني ولم يطل صمت عبد الناصر، ولم تمنعه مشاكله الكبيرة، وهمومه التي تجاوزت هموم البشر، من الاهتمام برسالتي، فقد روى لي أحد المقربّين منه، أنه وضع خطوطا تحت أكثر مقاطع الرسالة وكتب بخط يده التعليمات الحاسمة التالية: 1- لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي. وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها. 2- تلغى كلّ التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة. 3- يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرّم فيها كما كان في السابق. التوقيع: جمال عبد الناصر.
بعد كلمات جمال عبد الناصر، تغير الطقس، وتغير اتجاه الرياح.. وتفرق المشاغبون وانكسرت طبولهم، ودخلت (الهوامش) إلى مصر بحماية عبد الناصر، ورجعت أنا إلى القاهرة مرة بعد مرة.. لأجد شمس مصر أشد بريقا، ونيلها أكثر اتساعا، ونجومها أكثر عددا.. إنني لا أروي هذه الحادثة التي لا يعرفها إلا القلة من أصدقائي، لأنها تتجاوز دائرة الأسرار الخصوصية، لتأخذ شكل القضية العامة. فقضيتي مع الرئيس عبد الناصر ليست قضية شخصية، أي علاقة بين قصيدة ممنوعة ورقيب يمنعها. إنها تتخطى هذا المفهوم الضيق، لتناقش من الأساس طبيعة العلاقة بين من يكتب ومن يحكم. بين الفكر وبين السلطة. فالعلاقة بين الكتابة وبين الحكم علاقة غير سعيدة، لأنها علاقة قائمة في الأصل على سوء الفهم وانعدام الثقة. لا الكاتب يستطيع أن يتخلى عن غريزة الكلام، ولا الحاكم يقبل أن يسمع صوتا غير صوته، وإذا قبل أن يستمع فلا يطربه إلا صوت الكورس الرسمي.. ومنذ القديم كان الكلام يقف في جهة، والمقصلة تقف في الجهة المقابلة. ومع هذا لم يتوقف الكلام، ولم تتعب المقصلة. وفيما يتعلق بالحاكم العربي، فقد تعود – وراثيا – أن ينام على سرير من قصائد المديح والإطراء، وأن تحمل إليه أشعار الشعراء على صواني الفضة. إنه مقتنع – بحكم العادة – أنه شمس.. وأنه كوكب.. وأنه ممطر كالسحاب، وكريم كالبحر، (فليتق الله سائله). والحاكم العربي الحديث، هو ابن آبائه، يحمل ملامحه النفسية، ونقاط ضعفهم، وقناعاتهم بالتفرد والعصمة. ولا يتصور أن في قاموس الحكم كلمة (لا)، لأن آذنه أدمنت كلمة (نعم)، ورنينها السحري. لقد كسر الرئيس عبد الناصر بموقفه الكبير جدار الخوف القائم بين الفن وبين السلطة، بين الإبداع وبين الثورة. واستطاع أن يكتشف، بما أوتي من حدس وشمول في الرؤية – أن الفن والثورة توأم سيامي ملتصق، وحصانان يجران عربة واحدة.. وأن كل محاولة لفصلهما سيحطم العربة، ويقتل الحصانين..
عبد المنعم رياض
رئيس الأركان المصري، الذي استشهد على جبهة القتال في السويس
أعلى
|
|
|